رسالة إلى صديقي «أبي تَمّام»

نشر في 09-09-2015
آخر تحديث 09-09-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي دارت الحياة دورتها، وتغير العالم، ولم يعد شعر ذاك المتوقد ذكاءً: حبيب بن أوس بن الحارث "أبي تمام" (788-845) قادراً على توصيف واقعنا الراهن بصدق يليق به. وأظنه لو كان حاضراً بيننا لأعاد النظر في شيء من أقواله. ومؤكد أنه كان سيقف مطولاً أمام بيت شعِره:

السيفُ أصدق أنباءً من الكتبٍ /  في حدهِ الحدُّ بين الجدِّ واللّعِبِ

بيضُ الصّفائِحِ لا سُودُ الصّحائِفِ في /  مُتُونِهنَّ جلاءُ الشكِّ والريبِ

السيف/ الرشاش/ الصاروخ/ القنبلة ما عاد أبداً أصدق من الصورة، لأن العالم يعيش عصر الصورة باقتدار، ووحدها الصورة قادرة على خلق أثرٍ يعجز عنه العنف البشري المتوحش. كما أن سود الصحائف صارت بأنبائها قادرة على إجلاء الشك والريبة، مستعينة بمحطات الأخبار الفضائية، ومواقع شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

منذ قرابة أربعة أعوام والشعب السوري ينزف دماً وخراباً وسط وحشية تتطلب إعادة النظر في تركيب الكائن البشري، وفي كل يوم تنهال القنابل والصواريخ وبراميل المتفجرات على رؤوس السوريين، وفي كل يوم يُدفن تحت الأنقاض مئات الشباب والأطفال والنساء والشيوخ، وفي كل يوم تهرب من الموت إلى الموت مئات العوائل السورية. لكن العالم بمعادلاته الفاضحة والمفضوحة، يتبادل نخب اللقاءات والمؤتمرات والاتفاقيات، ريثما يجد حلاً للقضية السورية. وفجأة استفاق العالم، استفاق عالم الدول الأوربية، وبقية دول العالم، على صورة طفلٍ يسجد معانقاً رمال الشاطئ، فلقد كان الرمل الرطب بالرغم من قسوته أقل قسوة عليه من أن يُدفن كمئات الأطفال دون أن يرى أحدٌ صورهم. لقد كان البحر وكان الساحل، وكانت كاميرا المصور أقدر على قول حقيقة تهزّ ضمير العالم، أكثر من كل الموت الأسود الذي غشى بلاد الشام بشراً وحجراً.

يا أبا تمام، أعلم أنا أنك لن تسمعني، وأعلم أنك أغمضت عينيك قبل ما يزيد على الألف سنة، لكنه الشعر يبقى بعد صاحبه، والكلمة المبدعة تبقى شاخصة على الزمن. لذا يا صديقي، اسمح لي أن أقول لك. نحن نعيش زمن الصورة/ الصحائف، والصورة وحدها أصبحت قادرة على تحريك مشاعر الملايين من البشر، ووحدها صورة الطفل السوري "إيلان عبدالله كردي" مرمياً بميتته على شاطئ البحر، كانت صادمة لنفوس ومشاعر الملايين مما حركهم، وجعلهم في دول ديمقراطية يضغطون على حكوماتهم لاستقبال اللاجئين السوريين بعد أن سُدّت بأوجههم أبواب الدنيا.

نعم يا صديقي يا أبا تمام، أيها الشاب الوسيم. لقد ولِدت أنت في إحدى قرى حوران في سورية، وذهبت إلى بغداد معززاً مكرّماً حين استقدمك الخليفة المعتصم، لكن حوران ما عادت حوران، ولا سورية بقيت سورية، وها أنا أخبرك، وأعلم بأن ذلك قد يؤذيك، بأن بغداد المعتصم تحولت إلى شيء مختلف لا علاقة له ببغداد التي عرفت وعشت!

أبا تمام، دارت الحياة دورتها، وشيئاً فشيئاً، زحزحت الصورة السيف، زحزح البقاء أداة القتل والدمار، فضربة السيف التي تغنيتَّ بها، تمرُّ خطفاً، بينما تبقى الصورة شاهداً على الزمن.

أبا تمام، أنت لست وحدك منْ قال بقوة القوة وبطشها، فهذا هو الشاعر الإنكليزي الأعظم وليم شكسبير (1564-1616) يقول: "القوة تصنع الحق"، وأظنكما كليكما ستُراجِعان موقفكما من القوة، لو كُتب لكما أن تكونا حاضرين، أنت في الموصل وهو في لندن، ورأيتما ما فعلته صورة إيلان بقلوب الناس، وكأنهم كانوا غائبين عن بشاعة الموت، وكأن صورة إيلان هي الصرخة التي هزت نخوتهم.

أبا تمام، يا صديقي، نحن العرب نعيش عصراً مخيفاً، مخيفاً في يومه وغده، ولذا علينا أن نعيد النظر في تراثنا الأدبي والثقافي والإنساني، لكي نأخذ منه ما يلائم روحَ العصر. ولذا اسمح لي أن أقول لك، إنه ليس من مصلحتنا التمسك بقولك: السيف أصدق أنباءً، بل العقل يشير علينا، أن نقول: الصورة/ الكلمة الإبداع/ الكلمة/ الحوار مع الآخر بات أصدق وأجدى وأنفع لنا.

لروحك السلام الأبدي أيها الشاعر السوري الوسيم.

back to top