لا شيء يعطيك صورة حقيقية من دون تزوير أو تنميق لأي رجل أو امرأة ممن صنعوا التاريخ، بقدر ما تعمله رسائله الخاصة، فليس هناك من المشاهير من لم يمسك بالقلم ليكتب رسالة إلى إنسان يثق به ويعبر في لحظة فرح صادق، أو حزن أصيل، أو أمل مرتقب، أو يأس غامر، عن حقيقة ما في صدره من انفعال وعواطف وأحاسيس.
فإذا أردت أن تعرف الظلال الخفية للمواقف الغامضة في تاريخ البشرية فابحث عن: المذكرات الخاصة، والرسائل الخاصة، أو الوثائق الخاصة.***في البلدان التي تعتبر أن الحقائق يجب أن تظهر إلى العلن بعد فترة زمنية، نجد متاحفها تحفل برسائل ومذكرات ووثائق لأشخاص من السياسيين والمفكرين والأدباء، وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دوراً في التاريخ.لهذا نكتشف عنهم بعد رحيلهم بسنوات ما كان في طي السرية والكتمان، حقائق موثقة مذهلة!وإلى وقت قريب تم اكتشاف حقائق كثيرة عن لينين، وماو، وآينشتاين، ومارلين مونرو... والمئات غيرهم، وذلك من خلال رسائلهم الخاصة وما كتبوه في مذكراتهم اليومية!***أما عن العرب: فقد لعبت الأهواء والتوجهات لاختراع أساليب تحبب بهذا، وتزري بذاك، خاصة في الأوساط السياسية.وهذا نفس ما درج عليه تاريخنا القديم عند كبار مؤرخينا! فنجد - مثلاً- رسالة بعث بها الخليفة الفلاني إلى أحد خصومه، وهي غالباً ما تكون مختلقة، وموضوعة عنه من بعد عصره بقرون، بسبب خصومات متوارثة!لهذا فمن الصعب أن نجد حقائق موثوقاً بها عمن صنعوا التاريخ العربي قديماً وحديثاً!إذ يستحيل على العربي أن يكتب مذكراته بصدق جان جاك روسو، أو الأب أوغسطين، على سبيل المثال، فالعرب تجري في جيناتهم "إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر صاغرينا". والعرب يشربون الماء زلالاً، وغيرهم يشربون كدراً وطينا! بل تثور ثائرتهم على من يقول الحقيقة عن نفسه، ويكتبها بنفسه، مثلما حدث من هجوم على المرحوم د. سهيل إدريس، عندما ألمح في مذكراته إلى أخلاقيات والده وشغفه بـ "الغلمنة"!***بينما في المتحف البريطاني يقف المرء على ما لا يصدقه عقل، حينما يقرأ عن أجداد الملوك المعاصرين! كهنري الثامن، جد الملكة إليزابيث! وجرائمه في قتل النساء، وزيجاته المتعددة، ونزق مزاجه في السياسة!في حين أن العرب يمنعون الكتب التي تحتوي على حقائق من خلال الرسائل التي كتبها أجدادهم عن أنفسهم من دخول البلاد!لماذا أسوق هذه الإلماحات؟!لأنني - والله - في حيرة من أمري وأنا بصدد كتابة ما صادفني وصادفته من أحداث في مشوار الحياة!وهو حافل بما يراه البعض ما لا تجوز الإشارة إليه، مع أنه واقع يجب تصويره قبل غيره من المواقف والمشاهد والأحداث التي يراها البعض أكثر إشراقاً إذا ما كتبتها!فالذين قرأوا ذكريات د. أحمد الخطيب، ليس في ذهنهم ما يحتجون به عليه سوى ذكره لحادثة اشتباكه مع الشيخ فهد السالم، رغم أنها واقعة حقيقية تصور مدى الاختلاف في طريقة العمل بين الرجلين!لكن كتابة الحقائق في الذكريات لا تعني أن يكون القلم عبارة عن كاميرا تصور شريطاً لكل ما يصادفه الإنسان في حياته من أحداث!فهناك ما لا يستحق الإشارة إليه فعلاً، إما لتفاهته، أو عدم أهميته، أو لأنه يورم ذات صاحب الذكريات بالإشارات المبالغ فيها إلى عظمة إنجازاته!فكتابة الذكريات إذا لم يتوخّ فيها كاتبها العبر النادرة، والتي فيها إضافة جديدة صادفها في حياته فلا قيمة لها!
أخر كلام
هل أكتب... أم لا أكتب؟!
19-12-2015