ما أروعه دستور الكويت

Ad

يزداد انبهاري بدستور الكويت يوماً بعد يوم، بالمقومات الأساسية للمجتمع التي أفرد لها الدستور باباً كاملاً، بعد باب "الدولة ونظام الحكم"، تتصدرها ثلاثة مقومات أساسية هي العدالة والحرية والمساواة، وتتوسطها مادة تقرر أن الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي والثروة الوطنية، وهي جميعاً حقوق فردية لها وظيفة اجتماعية، ليختم هذا الباب مواده بالعدالة الاجتماعية، وأن الدولة تكفل تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة، وأن الوظائف العامة خدمة وطنية، يليه باب عن الحقوق والواجبات العامة يحمي الجنسية ويكفل المساواة في الكرامة الإنسانية ويكفل الحرية الشخصية وحرية العقيدة وحرمة المسكن ويصون حرمة المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية، ويكفل حق التعليم وحق العمل، ويكفل حرية الرأي وحق التعبير عنه وحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات وحق الشكوى وحظر تسليم اللاجئين السياسيين، ويختم هذا الباب مواده بواجبات ثلاثة هي الدفاع عن الوطن وأداء الضرائب والتكاليف العامة، ومراعاة النظام العام واحترام الآداب العامة، ويتوسط مواده أيضاً بواجبات ثلاثة هي أن التعليم إلزامي في مراحلة الأولى، وأن العمل واجب على كل مواطن تقتضيه الكرامة الإنسانية، مع حظر فرض عمل إجباري على أحد إلا في الأحوال التي يعينها القانون لضرورة قومية بمقابل عادل.

ويبدو الدستور في كل هذه الحقوق والحريات التي كفلها، وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، لا لحقوق المواطن وحده، عدا حق التعليم وحق العمل اللذين ألزم الدولة بتوفيرهما للمواطن، وهو حق وواجب مشروع على كل دولة.

ويورد الدستور باباً رابعاً للسلطات، يقيم فيه توازناً دقيقاً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مخافة أن تطغى إحداهما على الأخرى، متلمساً في النظام الديمقراطي الذي تبناه طريقاً وسطاً بين النظامين البرلماني والرئاسي، حرصاً على وحدة الوطن واستقرار الحكم، وهو التوازن الذي وضع الدستور آلياته، في انفراد صاحب السمو الأمير باختيار الوزراء، وفي تقريره للمسؤولية السياسية الفردية للوزراء أمام الأمير وأمام مجلس الأمة وغير ذلك من آليات لا يتسع لها المقال الصحافي.

ثم يرد الباب الخامس بأحكامه العامة والمؤقتة، والذي ينتهي بمادة العمل بالدستور، وبمادة الحكم الانتقالي.

انبهاري بمادة العمل بالدستور

وإذا كان انبهاري بدستور الكويت يزداد يوماً بعد يوم، فإن ما لم أتخيله أن تكون مادة العمل بالدستور والحكم الانتقالي المرافق لها سبباً مضافاً إلى الأسباب التي تبهرني بمحتواه ومضمونه.

والواقع أن هذه المادة وحكمها الانتقالي، لم يستوقفاني مرة واحدة، ليبهراني بأحكامهما، فمادة العمل بالدستور أو بالقانون، لا تثير في الباحث الدستوري، والقانوني فضولاً، أو كوامن البحث والاستقراء واستخلاص النتائج، خاصة بعد أكثر من نصف قرن من تطبيق هذا الدستور، قضيت أغلبها في البحث وتقصي أحكامه، أنهل منها علماً وصياغهً ولا أرتوي، بل يزداد ظمئي وأنا أجد في النص الذي قرأته عشرات المرات جديداً، لم أتنبه إليه من قبل.

والجديد الذي بهرني في مادة العمل بالدستور وحكمها الانتقالي، أنها جنبت الكويت، النفق المظلم الذي أدخلتنا فيه مادة العمل بالدستور الحالي في مصر.

فقد أحسن صنعاً الخبير الدستوري المصري الأريب الراحل د. عثمان خليل، عندما وضع مادة العمل بالدستور وحكمها الانتقالي، فوأد كل مشكلة أو أزمة يمكن أن تعرض للبرلمان الكويتي الذي كان سيتولى السلطة التشريعية خلفاً للمجلس التأسيسي، التي كانت قد أسندت إليه بالقانون رقم 1 لسنة 1962 الخاص بالنظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال.

فنصت المادة 182 من دستور الكويت على أن "ينشر هذا الدستور في الجريدة الرسمية، ويعمل به من تاريخ اجتماع مجلس الأمة، على ألا يتأخر هذا الاجتماع عن يناير 1963".

ثم استطرد الدستور في المادة الثالثة إلى تقرير حكم انتقالي أورده في المادة (183) التي نصت على أن "يستمر العمل بالقانون رقم 1 لسنة 1962 الخاص بالنظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال، كما يستمر أعضاء المجلس التأسيسي الحاليون في ممارسة مهامهم المبينة بالقانون المذكور إلى تاريخ اجتماع مجلس الأمة".

فماذا فعل خبراؤنا المعاصرون؟ وماذا كان ينقصهم لو ساروا على درب أستاذنا العميد والخبير الدستوري د. عثمان خليل، في صياغة مادة العمل بالدستور وحكمها الانتقالي على النحو الذي صاغه به في دستور الكويت، بالنص على أن يستمر العمل بالإعلان الدستوري الصادر في 8 يوليو سنة 2013، بالنسبة إلى سلطة التشريع حتى أول اجتماع لمجلس النواب.

بدلاً من الحكم الوارد في المادة (246) من الدستور المصري، الذي نص على أن "يلغى الإعلان الدستوري الصادر في الخامس من يوليو سنة 2013 والإعلان الدستوري الصادر في الثامن من يوليو سنة 2013".

ويبدو أننا أصبحنا شعوباً لا تقرأ، ولئن صدق هذا القول على عوامنا وشبابنا، فكيف يصدق على الخبراء منا والمتخصصين، والأجلاء منهم الذين حملوا أمانة وضع الدستور، فلم يقرأوا هذا الإعلان قبل إلغائه.

ولو قرأوه لعلموا أنهم سوف يخلقون فراغاً تشريعياً في الفترة من تاريخ الموافقة في الاستفتاء على الدستور في يناير 2014 حتى اجتماع مجلس النواب، الذي ينتظر الدعوة إلى أول اجتماع له في يناير 2016، أي بعد عامين كاملين، وأنهم بذلك فتحوا الباب على مصراعيه للدخول إلى النفق المظلم الذي أدخلتنا فيه المادة 156 من الدستور.

ولعل ما زاد الطين بلة في نص المادة (246) من دستور مصر هو إلغاء الإعلان الدستوري الصادر في الخامس من يوليو سنة 2013، لأن هذا الحكم يقطع بيقين أنهم لم يقرأوا هذا الإعلان قبل النص على إلغائه، فقد كان هذا الإعلان يتكون من مادتين، أولاهما تنص على حل مجلس الشورى، والثانية تنص على نشره في الجريدة الرسمية والعمل به من تاريخ النشر. فهل يعيد هذا الإلغاء مجلس الشورى؟!

تحية إحلال وتقدير إلى د. عثمان

ولا يفوتني أن أوجه هذه التحية إلى الخبير الدستوري الراحل د. عثمان خليل، رحمة الله عليه، الذي يشهد له دستور الكويت بفضله بهذه الصياغات الفنية الرائعة للحقوق والحريات ولنظام الحكم، وللضمانات، وهو الذي شارك أعضاء المجلس التأسيسي وأعضاء لجنة الدستور المنبثقة عنه مناقشاتهم حول كل مادة من مواد الدستور، فجاءت نصوصه بهذا التناغم الرائع بين الخبرة الدستورية والخبرة الفنية الرائعة في الصياغة، وبين تقريرات اجتماعية وتاريخيه ورؤية سياسية لأعضاء المجلس التأسيسي تشهد بدرجة الوعي الذي بلغوه باحتضانهم لهذه المبادئ الدستورية السامية التي تضمنها دستور الكويت.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.