الصين لن تنهار

نشر في 20-10-2015
آخر تحديث 20-10-2015 | 00:01
تبدو الإدارة الاقتصادية الصينية أقل عجزاً مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، والواقع أنها قادرة على تجنب الانهيار المالي الذي يُخشى حدوثه على نطاق واسع من الصين، وإذا كان الأمر كذلك فإن اقتصادات ناشئة أخرى مرتبطة بالتصورات حول صحة الاقتصاد في الصين لابد أن تستقر هي أيضا.
 بروجيكت سنديكيت في اجتماع صندوق النقد الدولي السنوي هذا العام في بيرو، هيمن سؤال واحد: هل يشعل الانكماش الاقتصادي في الصين شرارة أزمة مالية جديدة بعد أن ودع العالم الأزمة الأخيرة للتو؟ بيد أن الافتراض الكامن وراء هذا السؤال- وهو أن الصين أصبحت الآن الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي- موضع شك إلى حد كبير.

من المؤكد أن الصين شهدت صيفاً مضطربا، نظراً لثلاثة عوامل: الضعف الاقتصادي، والذعر المالي، والاستجابة السياسية لهاتين المشكلتين، ورغم أن أياً من هذه العوامل كان سيهدد الاقتصاد العالمي في حد ذاته، فإن الخطر كان نابعاً من تفاعل ذاتي التعزيز بين ثلاثتها: فالبيانات الاقتصادية الضعيفة تؤدي إلى الاضطرابات المالية، التي تستحث الأخطاء السياسية التي تغذي بدورها المزيد من الذعر المالي، والضعف الاقتصادي، والأخطاء السياسية.

الواقع أن هذه الآلية الاسترجاعية المالية تصبح أقوى كثيراً في نقل العدوى الاقتصادية العالمية من التعرض التجاري العادي أو التعرض للتجارة العالمية، كما أدرك العالم في 2008 و2009، والسؤال الآن هو ما إذا كانت الحلقة المفرغة التي بدأت بالصين خلال فصل الصيف ستستمر.

لابد أن تميز الإجابة الواعية بين المفاهيم المالية والواقع الاقتصادي، إذ إن تباطؤ النمو في الصين ليس في حد ذاته مفاجئاً أو منذراً بالخطر، فكما لاحظ صندوق النقد الدولي، كان معدل النمو في الصين في انحدار مطرد لخمس سنوات، من 10.6% في عام 2010 إلى المعدل المتوقع 6.8% هذا الصيف ثم إلى 6.3% في عام 2016.

كان هذا التباطؤ حتمياً مع تقدم الصين من الفقر المدقع والتخلف التكنولوجي لكي تصبح اقتصاداً متوسط الدخل مدفوعاً بالتجارة الخارجية والإنفاق الاستهلاكي، وكان أيضاً مرغوباً، لأن النمو السريع أصبح يهدد الحدود البيئية.

حتى مع تباطؤ وتيرة النمو، تساهم الصين في الاقتصاد العالمي أكثر من أي وقت مضى، لأن ناتجها المحلي الإجمالي اليوم يبلغ 10.3 تريليونات دولار أميركي، بعد أن كان 2.3 تريليون دولار فقط في عام 2005. وتُظهِر الحسابات البسيطة أن 10.3 تريليونات دولار تنمو بمعدل 6% إلى 7% سنوياً تنتج أرقاماً أكبر كثيراً من النمو بمعدل 10% من قاعدة أصغر بنحو خمس مرات. ويعني تأثير هذه القاعدة الضخمة أيضاً أن الصين ستستمر في امتصاص المزيد من الموارد الطبيعية بمعدلات أكبر من أي وقت مضى، رغم تضاؤل توقعات نموها.

لكن الصين تتسبب في قدر كبير من القلق والانزعاج، وخاصة في البلدان الناشئة، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى حقيقة مفادها أن الأسواق المالية أقنعت نفسها بأن اقتصاد الصين لا يتباطأ فحسب، بل إنه ينزلق إلى هاوية. ويتعامل كثيرون من المحللين الغربيين، وخاصة في المؤسسات المالية، مع نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمي في الصين بنحو 7% باعتباره تلفيقاً سياسيا، ويبدو أن تأكيد صندوق النقد الدولي الأخير على نموها بنسبة 6.8% من غير المرجح أن يقنعهم، فهم يشيرون إلى الإحصاءات عن الصلب والفحم والبناء، التي تنهار حقاً في العديد من المناطق الصينية، وإلى التصدير الذي ينمو بنسبة أقل كثيراً من حاله في الماضي.

ولكن لماذا يقبل المتشككون حقيقة الأرقام الحكومية الكئيبة بشأن الناتج في قطاعي البناء والصلب- والذي هبط بنسبة 15% و4% على التوالي، في العام الذي انتهى في أغسطس- ثم يرفضون البيانات الرسمية التي تُظهِر نمواً بنسبة 10.8% في مبيعات التجزئة؟

بوسعنا أن نرى أحد الأسباب في مفهوم "الانعكاسية" الذي تحدث عنه رجال المال جورج سوروس. لقد زعم سوروس لسنوات أن الأسواق المالية قادرة على خلق توقعات غير دقيقة ثم تغيير الواقع بحيث يتوافق معها، وهذا هو عكس العملية التي وصفتها الكتب الأكاديمية التي تشكل صلب النماذج الاقتصادية، التي تفترض دوماً أن التوقعات المالية تتكيف مع الواقع لا العكس.

في مثال كلاسيكي للانعكاسية، عندما تحولت طفرة سوق الأسهم الصينية إلى الانهيار في يوليو، استجابت الحكومة بمحاولة ضخ 200 مليار دولار أميركي لدعم الأسعار، ثم أعقب ذلك خفض بسيط لقيمة الرنمنيبي التي كانت مستقرة سابقا، وقد سخر المحللون الماليون بلا استثناء تقريباً من هذه السياسات وانتقدوا قادة الصين بشدة لأنهم هجروا ادعاءاتهم الزائفة السابقة بشأن الإصلاحات الداعمة للسوق، وقد اعتبر يأس الحكومة الواضح دليلاً على أن الصين كانت في ورطة أكبر كثيراً مما كُشِف عنه من قبل.

وسرعان ما عمل هذا الاعتقاد على تشكيل الواقع، مع تسبب محللي السوق في طمس الفارق بين تباطؤ النمو والانهيار الاقتصادي، ففي منصف سبتمبر، على سبيل المثال، عندما بلغ مؤشر مديري المشتريات في القطاع الخاص نحو 47.0، كانت النتيجة ظاهرة على طول هذه الخطوط: "والآن يشير المؤشر إلى انكماش في قطاع التصنيع لسبعة أشهر متوالية".

وفي واقع الأمر، كان قطاع التصنيع الصيني ينمو بمعدل 5% إلى 7% طيلة تلك الفترة، وكان الدليل المفترض خاطئاً لأن الرقم 50 على المؤشر يمثل الخط الفاصل ليس بين النمو والركود، بل بين تسارع النمو أو تباطؤه. وعلى مدى 19 شهراً من عمر مؤشر مديري المشتريات الذي بلغ 36 شهرا، كانت القيمة أقل من 50، في حين بلغ نمو قطاع التصنيع الصيني 7.5% في المتوسط. وكانت المبالغات من هذا النوع سبباً في تقويض الثقة بالسياسة الصينية في وقت خطير بشكل خاص، ذلك أن الصين تبحر الآن عبر انتقال اقتصادي معقد يشمل ثلاثة أهداف تتضارب أحيانا: خلق اقتصاد استهلاكي قائم على السوق؛ وإصلاح النظام المالي؛ وضمان التباطؤ المنظم الذي يتجنب الانهيار الاقتصادي الذي يصاحب عادة إعادة الهيكلة الصناعية والتحرير المالي.

وستتطلب إدارة هذه الثلاثية بنجاح ترتيب الأولويات ببراعة، وسيصبح هذا أكثر صعوبة إذا خسر صناع السياسات في الصين ثقة المستثمرين الدوليين، أو الأهم من ذلك ثقة المواطنين والشركات الخاصة في الصين.

الواقع أن الحلقات المفرغة من عدم الاستقرار الاقتصادي، وانخفاض القيمة، وهروب رؤوس الأموال تسببت في إسقاط أنظمة كان يبدو أنها غير قابلة للكسر على مر التاريخ، وربما يفسر هذا نوبة الرعب التي أعقبت خفض قيمة الرنمينبي بنسبة ضئيلة ولكن بشكل مفاجئ تماما.

بيد أن الرنمينبي استقر مؤخرا، وتضاءل هروب رؤوس الأموال، كما يتضح من أرقام الاحتياطي الأفضل من المتوقع والتي أطلقها بنك الشعب الصيني في السابع من أكتوبر، ويشير هذا إلى أن سياسة التحول التدريجي التي تنتهجها الحكومة إلى سعر الصرف القائم على السوق ربما كان تنفيذها سيتم على نحو أفضل من المعتقد عموما؛ وحتى التدابير الرامية إلى دعم سوق الأسهم تبدو الآن أقل عقماً مما كانت عليه في يوليو.

باختصار، تبدو الإدارة الاقتصادية الصينية أقل عجزاً مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، والواقع أن الصين قادرة على تجنب الانهيار المالي الذي يُخشى حدوثه على نطاق واسع منها، وإذا كان الأمر كذلك فإن اقتصادات ناشئة أخرى مرتبطة بالتصورات حول صحة الاقتصاد في الصين لابد أن تستقر هي أيضا.

لقد تعلم العالم منذ عام 2008 إلى أي مدى من الخطورة قد تتفاعل التوقعات المالية مع الأخطاء السياسية، فتحول المشاكل الاقتصادية المتواضعة إلى كوارث كبرى، أولاً في الولايات المتحدة ثم في منطقة اليورو، وسيكون من عجيب المفارقات أن يتبين لنا أن قادة الصين الشيوعيين يتمتعون بفهم أفضل وأعمق للتفاعلات الانعكاسية بين التمويل، والاقتصاد الحقيقي، والحكومة، من أشد المخلصين للسوق الحرة في الغرب.

* أناتول كاليتسكي | Anatole Kaletsky ، كبير خبراء الاقتصاد والرئيس المشارك لمؤسسة جافيكال دراجونوميكس للبحوث (Gavekal Dragonomics)، ومؤلف كتاب "الرأسمالية 4.0، ميلاد اقتصاد جديد".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top