طبيعي أن يرى البعض مشاكله الشخصية الصغيرة ظلاً يغطي سماء يومه، وبهذا يصعب عليه رؤية مشاكل الآخرين من جهة، ويضخّم من إحساسه بمشكلته من جهة ثانية. لكن الأدب المبدع هو ذاك الذي ينبّه الإنسان إلى معاناةٍ حاضرةٍ غائبة، ليهزّه بلطف، فيبتعد به قليلاً عن انغماسه في ذاتيته. هامساً به: على قدر عدد البشر، توجد مشاكل تحيط بهم، ووحدهم الأموات لا يعانون شيئاً في سباتهم الأبدي!

Ad

"ماريو بنيديتي – Mario Benedetti" (2009-1920)، كاتب من الأوروغواي، له قرابة ثمانين كتاباً بين الرواية والقصة والشعر والمسرح والكتابات النقدية. ومن بين ذلك تأتي رواية "ربيع بزاوية مكسورة" ترجمة علاء شنانة، عن دار نينوى، لتتناول قضية إنسانية في الظل من الحاضر الإنساني المعيش، حيث معاناة سجين سياسي يتخذ من الأمل طوق نجاة ليبقى عاقلاً متماسكاً، ويتخذ من خيالات حبيبته وزوجته، ورسائل أبيه وابنته الصغيرة، حياة يحيا بها داخل السجن.

بحرفية عالية يتيح المؤلف مساحات كبيرة ليتعرف القارئ على هواجس كل من شخوص الرواية، بحيث يفرد فصلاً لكل صوت، بصيغة ضمير المتكلم، وتتناوب على السرد أصوات جميع الشخصيات.

ويبدأ مأزق الرواية الإنساني بالتشكل لحظة تشعر زوجة السجين "غراثييلا" بشيء من تبدل مشاعرها حيال زوجها، وبشيء من صراخ جسدها الذي ظل صامتاً منصرفاً عن ملذاته مدة أربع سنوات. تبدأ هي بالتساؤل: إلى متى يجب عليَّ أن أبقى غاطسة في بحر الحرمان؟ وإذا كان زوجي قد حُكم عليه بالسجن نتيجة مواقفه السياسية، فهل يعني ذلك أن أشاركه السجن وأنا خارجه؟ وكيف ترى بالإنسان يعوض عمراً لا سبيل لتعويضه؟ ويؤلمها ويعذبها أن يبقى زوجها السجين "سانتياغو" يشدُّ من عزم نفسه باستقرار مشاعره بحبها له. فهو لا ينفك يبعث برسائله إليها، ببقائها على عهد حبهما، خاصة ووجود طفلتهما "بياتريس". لكنها المرأة الثلاثينية ووسط عواء جسدها، تستيقظ مشاعرها حيال صديق زوجها "رولاندو أسويرو" الذي يجد نفسه مُنجذباً إليها كأصدق ما يكون هوى المحبة.

الروائي ماريو بنيديتي يحيك حبكته الروائية بتأنٍ ومكرٍ وشغف كبير، هو يتناول إشكالية المرأة بعواء جسدها، وتبخر الكثير من عواطفها تجاه زوجها من جهة، وإحساسها بضرورة الوفاء لحبهما من جهة ثانية. لكن إلى متى ستبقى تنتظر ما لا أمل في مجيئه؟ لذا تذهب إلى والد زوجها تستشيره في أزمتها وحاجتها لزوج يستر عري مشاعرها ويغطي برد جسدها. وبموضوعية يقف الوالد بإنسانية معها، بحقها في العيش والاقتران بزوج آخر، فليس من عقيدة أو عقد، يقرّ بهدر حياتها ثمناً لعلاقتها مع زوجها السجين. وحين تسأله: هل أخبره بذلك؟ ينكسر قلبه، ويرد عليها بأن ولده يعيش في السجن مُعذَّباً بما فيه الكفاية، ولا داعي لسحقه بألم لا يقوى على ردّه. ويختم قائلاً: إذا خرج في يوم ما من السجن فإن الحياة كفيلة بتقديم العزاء إليه.

تتخذ المرأة قرارها بارتباطها بحبيب وزوج جديد، دون إخبار زوجها السجين، ولحظتها يلعب القدر لعبته بأن يأتي العفو عن زوجها، فتتشابك خيوط الحكاية، وتقف هي موقفاً حاسماً بتمسكها بزوجها الجديد، بينما يبقى الزوج السجين، يحلم بلقائه بزوجته ووالده وابنته، مخططاً لحياة جديدة تعوضه سنوات سجنه القاسية.

كيف ستواجه غراثييلا زوجها؟ وماذا ستقول له لحظة يُقبل عليها لهِفاً لاحتضانها بوجود صديقه بقربها؟ علماً بأنه أحسَّ من برودة كلمات رسائلها الأخيرة أن شيئاً قد تغيّر فيها. كيف سيواجه صفعة الحب بعد صفعات السجن؟ هذا ما لا يكشف عنه الروائي ماريو بنيديتي، وكأنه يقول: للحياة كلمتها التي يحاول الأدب مقاربتها.