عناقات المسخ الفاضحة

نشر في 08-07-2015
آخر تحديث 08-07-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي خلافاً لتواريخ القضية الفلسطينية المؤلمة، أرى في ما أرى أن الحرب العراقية الإيرانية، التي أكلت بقبح وجهها ونهمها للقتل الطازج أكثر من مليون إنسان، وامتدت على مساحة ثماني سنوات كانت بداية دخول دول وشعوب المنطقة العربية، وكذلك الشعب الإيراني، دهليز الظلمة. وأنا جد مقتنع أن الجريمة النكراء الأكبر في الثاني من أغسطس 1990، هي المنعطف الأهم والأخطر في التاريخ الحديث للمنطقة العربية.

عاشت شعوب المنطقة العربية، بدرجةِ قربٍ أو بأخرى، حالة حرب يومية طوال الثمانينيات، والتسعينيات، والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وست سنوات من العقد الثاني، أي بحسبة بسيطة، شعوب المنطقة تعيش منذ قرابة "36 سنة" حالة حرب يومية، وكل من ولِد مع بداية الثمانينيات، فإنه قد عاش عمره كله يبتلع مع كل شربة ماء وكل لقمة، صوت طلقة، ودوي طائرة، وتفجير قنبلة، ولون دم قانٍ. وبالتالي تراكم لديه في اللاوعي وفي الوعي، أن الحرب جزء أساسي من الحياة، وربما كانت الجزء الأكثر حضوراً. لذا استطعم مُجبراً الحياة معجونة بالحرب. وربما ما عاد يتصور حياةً دون قتل يومي طازج، ولا عاد يرى في مقتل أحدٍ حدثاً غير عادي، فكلنا للموت، ووحدها الحرب الجارية قادرة على أن تعطف علينا وتأخذنا إلى الموت كأسرع ما يكون.

ركوب طائرة في رحلة لمدة ثلاث ساعات يحتم على الراكب عيش أجواء الرحلة، فما بالك بمن يركب حياة حربٍ منذ قرابة أربعين سنة؟ كيف له ألا يعيش أجواء حربٍ ويبقى رابطاً حزام القتل ومتأهباً لكل المطبات المرعبة. مؤكد أن الحرب طبّعت فكرنا ولغتنا وسلوكنا بطباعها. ومؤكد أنها ما زالت تمارس هذا التطبيع بشكل محسوس وغير محسوس، ولو أن حضورها اكتسب مذاقاً آخر منذ انتفاضات الشعوب العربية في 2011، وما تبعها من أهوال، غيّرت وتغيّر وجه المنطقة، ومخطئ من يعتقد أنها لن تؤثر على شعوب العالم ودوله بأسرها!

أي دراسة سيكولوجية جادة لشعوب المنطقة، وبمختلف شرائح أعمارهم، ستظهر بجلاء، سقوط الكثير من المفاهيم على مستوى الوعي والسلوك، وظهور مفاهيم أخرى مكانها، وأن الإنسان العربي الذي يحمل فصيلة دمه أينما ذهب، سيحمل معها آثار الحرب المدمرة التي عايشها، وسيبقى سلوكه العدائي مختبئاً بين ضلوعه وقد ينتفض مُنفجراً في أي لحظة.

أزعم أن الصداقة إحدى ثيمات الحياة اليومية التي تأثرت كثيراً بنثار الحرب. فمن المعروف أن زمن استقرار ولو نسبي، يفرز علاقات مختلفة عن أزمان حروب متوحشة تلِدّ صداقات تشبه روحها. أراقب عن كثب الكثير من علاقاتي بأصدقائي منذ سنوات، ولا تنفك كلمات الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954-1982) في ديوانه "وعل في الغابة"، التي اقتبسها من الشاعر الفرنسي "بول فانسانسيني" ترنّ بقلبي كل يوم: "أعدُّ الأيامَ على أصابعي/ وعليها أعدّ أيضاً/ أصحابي وأصدقائي/ وفي يومٍ ما/ لن أعدّ على أصابعي/ سوى أصابعي"

هل أجدر من أيام الحرب على إسقاط الصحب والصداقة؟ أخلاق أيام الحرب والمصالح تندس بين المرء ونفسه دون أن يدرك ذلك، لذا "يعطيك قفاه في لحظة سهوٍ في مجلس"، حين تهلّ المصلحة ممثلة بشخص مسخ. لكن صديقك يهبَ دون وعيه ليحتضن مصلحته ضارباً عرض الحائط بصداقتك، دون أن ينتبه إلى أنه أدار وجهه لصحبة عمرٍ، ودون أن يُدرك أنه بلحظة صدق باعك بأرخص الأثمان، وترك في قلبك نُدبة ستظل رطبة بدفق دمها!

لا أعتب على أحدٍ. ولا ألوم أحداً. بل أبحلق في زمن مغاير، زمن حروب وحشية، فهذا الزمن كشف لي ما كنتُ غافلاً عنه، وعرى أمامي صحباً كنتُ أظنهم صحب عمرٍ، وإذ بهم صحبٌ متلونٌ تعافهم روحي!    

back to top