ما قل ودل: بين ضرورة توجب القضاء على الهيئة وضرورة توجب بقاءها

نشر في 27-12-2015
آخر تحديث 27-12-2015 | 00:01
 المستشار شفيق إمام مكافحة الفساد لم تعد مسألة محلية لا سيما بعد أن أبرمت الأمم المتحدة في سبتمبر 2003 اتفاقية لمكافحته انضمت إليها دولة الكويت عام 2006، مقرة بأن تكفل الكويت، لأنها دولة طرف وفقاً للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، وجود هيئة أو هيئات حسب الاقتضاء تتولى منع الفساد.

الهيئة العامة لمكافحة الفساد... الأهداف

أنشئت الهيئة العامة لمكافحة الفساد بموجب المرسوم بقانون رقم 29 لسنة 2012 الذي صدر مستهدفاً غايات نبيلة حفلت بإيرادها المذكرة الإيضاحية للمرسوم بقانون، فيما قررته من أن الفساد وما ينطوي عليه من جرائم اقتصادية واجتماعية من شأنها زعزعة استقرار المجتمعات وأمنها وتقويض مؤسسات الدولة والمساس بسيادة القانون فيها، يساعد على انتهاك حقوق الإنسان، وتعريض التنمية والعدالة للخطر، ويعد من الظواهر الخبيثة التي تهدد كيان المجتمع، وتصيبه بآثار ضارة، ولأن الفساد لم يعد محلياً فقد أبرمت الأمم المتحدة في سبتمبر 2003 اتفاقية لمكافحته انضمت إليها دولة الكويت بالقانون رقم 47 لسنة 2006، وقد نصت تلك الاتفاقية في مادتها (السادسة) على أن تكفل كل دولة طرف وفقاً للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني وجود هيئة أو هيئات حسب الاقتضاء تتولى منع الفساد.

الاعتمادات المالية للهيئة

وتم رصد اعتمادات مالية لهذه الهيئة في ثلاث ميزانيات متتالية 2012 /2013 و2013/ 2014 و2014/ 2015، وبتعيين كوادرها البشرية، وإقامة مقر لها، كما قامت الهيئة بمباشرة مسؤولياتها في تطبيق الاتفاقية الدولية سالفة الذكر، وفي تلقي التقارير والشكاوى والبلاغات عن جرائم الفساد المنصوص عليها في مرسوم إنشاء الهيئة سالفة الذكر، قانون، وفي غيرها من القوانين، قانون الجزاء وقانون مكافحة غسل الأموال وقانون المناقصات والمزايدات، وغيرها من جرائم فساد تحفل بها القوانين.

قيام الهيئة بمسؤولياتها

وقامت الهيئة بالتحقيق في هذه البلاغات وإحالة بعضها إلى النيابة العامة، وحماية المبلغين عنها بالتنسيق مع الجهات المختصة، وطلب التحري عن وقائع الفساد التي نمت إلى علمها عبر هذه البلاغات، واستدعاء المبلغ عنهم والشهود.

كما باشرت مسؤولياتها في تلقي تقارير الذمة المالية من رئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ومجلس الأمة والمجلس الأعلى للقضاء، والمجلس البلدي ومجالس الهيئات والمؤسسات العامة، واللجان التي صدرت مراسيم بتشكيلها ومجالس إدارة الشركات التي تساهم فيها الدولة، والجمعيات التعاونية والهيئات الرياضية، ومن القياديين العسكريين والمدنيين في الجهات الحكومية والمؤسسات العامة، وهي إقرارات يلزم القانون الهيئة بالحفاظ على سريتها.

والواقع أن الهيئة لم تقصر في القيام بمسؤولياتها رغم تأخر صدور اللائحة التنفيذية، وأنها طالبت بتعديل قانون إنشائها لتفعيل دورها.

الحكم بعدم دستورية مرسوم مكافحة الفساد

وقد طعن أحد المواطنين، من الملتزمين بتقديم هذه الإقرارات على المرسوم بقانون طعنا مباشراً أسسه على أن الحكومة أصدرته بتاريخ 19/ 11/ 2012، وكان في مكنتها الانتظار بضعة أيام لحين إجراء الانتخابات البرلمانية التي أجريت بتاريخ 1/ 12/ 2012، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لمخالفة ذلك المرسوم بقانون لأحكام الدستور من عدة نواح سردها الطاعن في صحيفة طعنه.

فأصدرت المحكمة الدستورية في جلستها المعقودة يوم الأحد الماضي الموافق 20 من ديسمبر 2015 حكمها القاضي بعدم دستورية المرسوم بقانون رقم 24 لسنة 2012 بإنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد لانتفاء الضرورة في إصداره، تأسيساً على ما جاء في أسباب هذا الحكم من أن المادة (71) من الدستور فيما أجازته للسلطة التنفيذية من إصدار مراسيم تكون لها قوة القانون، إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله، مما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، على ألا تكون مخالفة للدستور أو للتقديرات المالية الواردة في قانون الميزانية، هي سلطة استثنائية، مناط استعمالها أن تقتضيها ضرورة ملحة أو كان توقياً لخطر تقدر ضرورة رده، باعتبار أن هذه الرخصة إنما شرعت لهذه الأغراض.

انتفاء مبررات الاستعجال في إصداره

 وإنه لم يطرأ من الأحداث أو الظروف ما يشير إلى أن أموراً معينة قد تفاقمت أو أوضاعاً قائمة قد استفحلت- خلال غيبة مجلس الأمة- يمكن أن تتوافر معها تلك الضرورة التي تبيح استعمال رخصة التشريع الاستثنائية المقررة بالمادة (71) من الدستور، فضلاً عن أن المرسوم المطعون عليه لم يتضمن في أحكامه ما يشير إلى اتخاذ إجراءات عاجلة ذات أثر فعال تتماشى مع مبررات إصداره، لذلك فإن هذا المرسوم بقانون، وقد صدر استناداً إلى هذه المادة، وعلى خلاف الأوضاع المقررة فيها، يكون مشوباً بمخالفة الدستور من الوجهة الشكلية، وحق القضاء، من ثم، بعدم دستوريته.

الحكم عنوان الحقيقة

وقد أصبح الحكم عنوان الحقيقة، وهي التي فرضت على المحكمة في أداء رسالتها السامية في صون الدستور، وحماية مبادئه وأحكامه من توغل أي سلطة من السلطات على اختصاصات سلطة أخرى في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، وأن السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة، وأن استخدام السلطة التنفيذية الرخصة المنصوص عليها في المادة (71) من الدستور في إصداره مراسيم بقوانين في غيبة مجلس الأمة، هو استثناء لا يجوز التوسع فيه، إلا لضرورة، لم تتوافر في إنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد، ومجلس الأمة على وشك الانعقاد وتحمل مسؤولياته، ولم تبق إلا أيام معدودة لذلك.

استقرار النظام القانوني وجه آخر للحقيقة

ولكن للحقيقة أحيانا وجهان، وقد يكون وجهها الآخر في سياق هذا القضاء هو استقرار النظام القانوني الذي عبرت عنه المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكم أصدرته في الطعن رقم 37 لسنة 9 دستورية، والذي قضى ببطلان تشكيل مجلس الشعب في مصر الذي انتخب على أساس قانون انتخابات قضت المحكمة بعدم دستوريته، إلا أن المحكمة لم ترتب على قضائها ببطلان تشكيل مجلس الشعب بطلان القوانين والقرارات التي أصدرها، بل اعتبرها الحكم صحيحة نافذة منتجة لأثارها في قضائها الذي قالت فيه إن الأصل في الأحكام القضائية، أنها كاشفة وليست منشئة وأن القوانين التي تقضي المحكمة بعدم دستوريتها، وإن كان ينسلخ عنها وصفها وتنعدم قيمتها بأثر رجعي ينسحب إلى يوم صدورها.

وإن إجراء انتخابات مجلس الشعب بناء على نص تشريعي ثبت عدم دستوريته بالحكم الذي انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا في الدعوى الماثلة، وإن كان مؤداه ولازمه أن تكوين المجلس المذكور يكون باطلا منذ انتخابه، إلا أن هذا البطلان لا يؤدي البتة إلى بطلان ما أصدره المجلس من قوانين وقرارات وما اتخذه من إجراءات خلال الفترة السابقة وحتى تاريخ نشره هذا الحكم في الجريدة الرسمية، بل تظل تلك القوانين والقرارات والإجراءات قائمة على أصلها من الصحة، ومن ثم تبقى صحيحة ونافذة... وهو قضاء تبنته المحكمة الدستورية في الكويت في العديد من أحكامها.

فهل كان بقاء ما أصدرته الهيئة العامة لمكافحة الفساد من قرارات وإجراءات في الفترة السابقة على صدور هذا الحكم صحيحا ونافذاً، هو ضرورة أخرى يوجبها استقرار النظام القانوني في الدولة؟ أم كان بقاء الهيئة في ذاته ضرورة أخرى توجبها الغايات السامية والأهداف النبيلة للهيئة مع التغاضي عن شكلية لم تعد جوهرية، بعد إقرار مجلس الأمة للمرسوم بقانون، متجاوزا شرط الضرورة وهو السلطة الأصيلة في التشريع، مع ما هو مقرر من أن الإجازة اللاحقة كالإقرار السابق؟

وهما سؤالان سنحاول الإجابة عنهما في مقال قادم، إن كان للعمر بقية.

back to top