ليست الوحدة الوطنية في كل قطر عربي وفي الكويت بوجه خاص بين السنّة والشيعة حلما بعيد المنال، وقد تحقق على أرض الواقع عقب فاجعة مسجد الصادق، في لحظة فارقة جمعت أبناء الوطن الواحد في الأحزان التي لفّت الجميع وفي الآلام التي اعتصرت القلوب على شهداء الفاجعة الذين استشهدوا في بيت من بيوت الله.
الانتحاري آلة القتل البشريةآلة القتل البشرية، التي كانت قبل يوم الجمعة الحزين إنسانا، حولته إلى حيوان في غابة جماعات التكفير وجماعات الدعوة إلى دولة الخلافة الإسلامية، حيوان بلا عقل، بلا قلب، بلا مشاعر، بل حيوان لا نظير له في أي غابة في شراسته، وقد تسلل إلى مسجد الإمام الصادق، أثناء أداء المصلين صلاة الجمعة وهم سجود، ليفجر نفسه وتتطاير الشظايا في أجساد المصلين، لتخلف خمسة وعشرين شهيداً وعشرات المصابين، وتخلف كذلك أعدادا مضاعفة من الأيتام والأيامى والثكالى والأرامل.إلا أن الكويت كلها كانت الثكلى، فقد فقدت في هذا الحادث المروع عددا من أبنائها نحتسبهم عند الله شهداء، وقد لفّ الحزن كل بيت وكسا كل مسجد وأدمى كل قلب.يظل الأمير أبا لأبناء الوطن جميعاإلا أن القرار الشجاع والحاسم الذي اتخذه صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح، حفظه الله ورعاه، بانتقاله فور وقوع الانفجار إلى مسجد الإمام الصادق، ليقف سموه جنبا إلى جنب مع شعبه وليواسي أهالي الشهداء والجرحى كان هو الحدث الأكبر الذي أعاد السهم إلى نحور من أرادوا زرع الفتنة في البلاد، بأن استطاع سموه بهذا القرار الذي اتسم بالحكمة والاقتدار أن يزود المواطنين بكل مذاهبهم وأطيافهم وألوانهم بعزيمة من الإصرار والتحدي على مواجهة هذه الفئة الباغية التي تتدثر برداء الإسلام، وهو منها بريء.واستطاع سموه بهذا القرار الجريء الحفاظ على وحدة الوطن وروح الأسرة التي امتاز بها الناس في الكويت حكاما ومحكومين عبر القرون، وهو ما استهلت به المذكرة التفسيرية للدستور المبادئ التي بني عليها الدستور والتي تقول إنها العمود الفقري لهذا الدستور، وتضيف بأنه لم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية، ما خلفته القرون المتعاقبة في معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم، ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن يظل رئيس الدولة أبا لأبناء هذا الوطن جميعا.الصادق إمام الأئمة الأربعةوقد لا يعلم الكثيرون، وخاصة من رددوا فور وقوع الجريمة البشعة أنه أحد مساجد أهل الشيعة، أن الإمام جعفر الصادق الذي يطلق اسمه على هذا المسجد، هو إمام الأئمة الأربعة من أئمة أهل السنة، فقد ولد الإمام جعفر الصادق في عام ثمانين للهجرة أو بعده بقليل، ولم تكن شمس الأئمة الأربعة قد أشرقت بعد، وإن كان أبو حنيفة قد ولد كذلك في العام ذاته من الهجرة، إلا أن الباحث والمدقق الراحل المستشار عبدالحليم الجندي يقول إن أبا حنيفة ومالك قد تتلمذا للإمام الصادق، وتأثرا به، سواء في الفقه أو في الطريقة، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي يدلي إلى أبناء النبي (صلى الله عليه وسلم) بأسباب من العلم والدم، وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل عشر سنوات، فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق.جذور المذاهب وأصولها واحدةوقد أردت بهذا الربط بين إمام الأئمة جعفر الصادق وبين الأئمة الأربعة أن أؤكد حقيقة واحدة هي أن مذاهب الشيعة والسنّة مهما اختلفت في الفروع وتعددت في الآراء فإن جذورها واحدة وأصولها الفكرية واحدة.فقد تصدر المذاهب الفقهية في الظهور مذاهب أهل البيت (المذهب الزيدي) على يد زيد بن علي زين العابدين، ثم مذهب الإمامية على يد الإمام جعفر الصادق.فليست الوحدة الوطنية في كل قطر عربي وفي الكويت بوجه خاص بين السنّة والشيعة حلما بعيد المنال، وقد تحقق على أرض الواقع عقب فاجعة مسجد الصادق، في لحظة فارقة جمعت أبناء الوطن الواحد في الأحزان التي لفّت الجميع وفي الآلام التي اعتصرت القلوب على شهداء الفاجعة الذين استشهدوا في بيت من بيوت الله، هنيئا لهم هذه الشهادة، ولا عزاء في شهيد.اغتيال نائب الشعب المصريوقد أصبح الدمع أكبر من أن تحتمله مقلتاي في الأسبوع الفائت وقد ذرفته على شهداء مسجد الإمام الصادق، ثم على القاضي والمستشار الجليل هشام بركات النائب العام، ثم على شهداء الجيش المصري في الكمائن المؤدية إلى مدينة الشيخ زويد في سينا، والتي واجهت هجوما إرهابيا دبر بليل، ونفذ مع صباح يوم الثلاثاء، وأعلن "داعش" مسؤوليته عنه.وأعود إلى المستشار الجليل هشام بركات النائب العام الذي تولى منصبه في 26/ 7/ 2013، عقب نجاح الشعب المصري في استرداد ثورته في 30 يونيو، فهو بحق نائب الشعب الذي تصدى في أصعب الظروف وأحلكها للإرهاب الأسود الذي هدد ولا يزال يهدد الأمن والسكينة والاستقرار، وحصد الأرواح البريئة في مصر وخارجها.إحالة قاتل شيماء إلى العدالةوالحق يقال إن المستشار هشام بركات بالرغم من التبعات التي تحملها في هذه الظروف وقاسى بسببها أخطارا جساما رافضا التجاوز من أي سلطة على حقوق وحريات المواطنين، ويشهد على ذلك موقفه الصلب وإصراره على محاكمة من قتل شيماء، التي اغتالتها يد آثمة لضابط شرطة كان يفض مظاهرة تشارك فيها، فإنه أحال القاتل الذي كشفت عنه التحقيقات إلى محكمة الجنايات التي قضت بسجنه خمسة عشر عاما.وكان على يقين في كل خطوة يخطوها منذ تولي منصبه بأنه سوف يتعرض للأذى من جرائها، ولكنه كان يتبعها بأخرى أشد منها جسارة ورجولة يخطوها بكل ثقة واقتدار لأن تحقيق العدالة- في يقينه- هو أسمى الغايات وأنبلها قصدا، وأنه فيما يصدره من قرارات مدين لربه بما يعتقد أنه الحق الخالص، وأن المحاكمة المنصفة العادلة التي هي حق كل متهم يجب أن تبدأ ضماناتها بمراعاة الحقوق الدستورية للمتهم في النيابة العامة، وهي تجري تحقيقها وتجمع الأدلة وتصدر قرار الاتهام في ضوء هذه الأدلة.وكان الشهيد يتمتع بقدر كبير من دماثة الخلق ورقة الطباع، فضلا عن علمه واقتداره، وأذكر عندما أهديته مؤلفي "الخطايا العشر في دستور العصر" في العام الماضي أن اتصل بي تلفونيا ليشكرني ويطري على ما ورد في هذا المؤلف بأدب جم ودماثة خلق، فقد قرأه أو تصفح الكثير من الموضوعات التي وردت فيه بالرغم من كل الأعباء الجسام التي كان يتحملها.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: مصر والكويت في خندق واحد ضد الإرهاب الأسود
05-07-2015