تعتبر أن الممارسة النقدية أصعب شيء قد يواجه الناقد الأدبي أو الباحث، لماذا؟

Ad

لأن الممارسة النقدية تضعك وجهاً لوجه أمام النصوص، وفيها تتخلص من الألاعيب التي يتوسل بها البعض للتغلب على ضحالة المنحى المعرفي، سواء كانت هذه الألاعيب حيلاً تتمثل في التمسك بالجانب النظري إلى أبعد مدى، أو حيلاً تتمثل في بعض المصكوكات اللفظية، التي ما زالت رائجة، توحي لبعض القراء بأن ثمة امراً كبيراً مهماً خلف هذه المصكوكات، فإذا توقف عندها متأملا وجدها لا تعطي شيئاً، ولا تكشف عن شيء، فهي تعطي إحساسا بالري، لكنها تترك المتلقي أو القارئ ظامئاً للمعرفة، بالإضافة إلى أن الممارسة النقدية تمثل حافزاً دائماً للناقد، لكي يعيد مساءلة إجراءاته، وجدوى وفاعلية هذه الإجراءات، فهي التي تكفل للناقد أن يظل في حالة انبهار دائم، ودهشة لا تستقر، لأن الدهشة أولى مراتب المعرفة.

ما الفارق بين الممارسة النقدية والمنهج النقدي في التعامل مع النصوص؟

الفارق يتمثل في الإطار العام، الذي يشكله المنهج بأطره وإجراءاته، والممارسة هي الكيفية التي يطوّع بها الباحث أو الناقد المنهج، لأن المشكلة الأساسية في النقد العربي تتمثل في استخدام الباحثين للمنهج بشكل حرفي، وهذا الاستخدام قد لا يكون مجدياً في الدرس الأدبي، لأن الأفضل أن تكون ثمة ممارسة واعية، فالمنهج ليس كيانا ساكنا، بل هو إطار متحرك دينامي تبعا لعدد النقاد الذين يشتبكون مع إجراءاته، فالمنهج ثابت، لكن الممارسات متعددة، وفي ظل وجود الممارسات الفارقة العديدة يكون لدينا توالد مستمر للمنهج أو لتجليات المنهج، لأن الممارسة النقدية هي السبب الأساس في اجتراح الحدود بين المناهج، وفي ميلاد مناهج جديدة.

تحذير ورسائل

حذرت في كتابك من وقوع بعض الباحثين في فكرة الاستلاب المنهجي، فمتى يحدث ذلك؟

تكشف نظرة شاملة ومتأنية على الرسائل الجامعية في مصر أو في الدول العربية، وقوعنا في إطار هذا الاستلاب المنهجي، نحن نطالب الباحثين بإعداد مخطط مسبق، وليس لديهم وعي شامل بالإطار المنهجي، ولا معرفة كاملة بموضوعاتهم، فنراهم يأخذون الطريق السهلة المعبدة، ويذهبون إلى الرسائل المعدة سلفاً، فينقل الباحث التبويب كما هو، من دون مراعاة حقيقية لطبيعة موضوعه، في حين لو كان ثمة نوع من التأني ومدى زمني للقراءة، لاستطاع أن يكيف المنهج الخام، ويغير في طبيعته بما يتسق مع موضوعه، أو الروائي الذي يدرسه، أو الشاعر الذي يبحث في تجليات شعريته، وفي هذه الحال تحدث النقلة المعرفية التي نطلبها ونصارع من أجل استيلادها ، والاستلاب المنهجي داخل في إطار هذا التصور، لأنه يفقد المنهج دورانه الفعال، فالباحثون حين يفعلون ذلك هم مثل الطبيب، الذي يعالج جميع المرضى بدواء واحد، وهذه كارثة في عالم الطب، وكذلك تشكل كارثة في عالم النقد الأدبي، فالروائيون أو الشعراء –حتى في ظل تفعيل مصطلح الجيل- قامات منفصلة، وما يفرق بينهم أكثر مما يجمعهم، ومن هنا تأتي قيمة التفرد في الممارسة النقدية، لأنها تكفل قيمة الاختلاف في المنحى النقدي والمنهجي.

تناولت الدراسة الأولى في كتابك «التناص في شعر أمل دنقل بين الامتصاص الحوار»، فما دور الممارسة النقدية في هذه الدراسة؟

الممارسة النقدية هنا وضعت في اعتبارها طبيعة شعر أمل دنقل، ومراحله الإبداعية من التأثر برواد الشعر مثل نزار قباني وحجازي وعبد الصبور، ومرور إبداعه الشعري بمرحلة وسطى بين التأثر والتفرد، ووصول شعره في مرحلة أخيرة إلى ظاهرة إبداعية متفردة، وقد جاءت المقاربة النقدية منطلقة من ذلك الإطار، لتصل إلى قراءة واعية لفكرة التناص بعيداً عن مفهوم الأصل أو الأبوة، وإنما لإقامة حوار فكري بين طبقات معرفية مختلفة زمنياً، ويشكل نص أمل دنقل طبقة موازية، وتقف على بساط واحد مع طبقات معرفية سابقة، وبالضرورة هي منفتحة لميلاد طبقات معرفية جديدة في أزمنة قادمة، ولأدباء آخرين، لن يأتي الوعي بهذه المراحل وليد اللحظة، وإنما يتولد ويتراكم نتيجة للقراءة وإعادة القراءة، وبالتأمل ومعاودة التأمل لنصوص الشاعر بعيداً عن التدثر بالنقل من آخرين، وحشد الدراسة باقتباسات ترهق العمل، ولا تثبت فرادته، وهنا قد نفتح باباً جديداً في الدرس الأدبي، فحواه كيف ننقل كتابة تاريخنا الأدبي من الارتباط بالتاريخ إلى الارتباط بفاعلية تلقي النصوص.

تحدثت في الدراسة الثانية عن «الوعي الذاتي بالآخر» في شعر صلاح عبد الصبور، ما مدى تأثير الوعي الذاتي على تجربته الشعرية؟

صلاح عبد الصبور يعتبر شاعرا عظيما، وهو من خلخل الشعر من سياق تعبيري إلى سياق موضوعي يهتم بتمثيلات الآخر المحيط بأنماطه المختلفة، في هذا الإطار يقدم تمثيلا واعياً للآخر غير منفصل عن الذات، بل يشعر القارئ لشعره أن الذات رغم محاولة الابتعاد تظل حاضرة،

ويظل لها وجود وفاعلية، وعبد الصبور بدأ باليومي المعتمد على السردي، فجعل المتلقي يشعر بفاعلية هذا المنحى، لكنه سرعان ما انتقل إلى تشكيل النموذج، وفي تشكيله لنماذجه بأنواعها العديدة لا تبتعد الذات، بل تظل حاضرة، ففي قصيدته «موت فلاح» على سبيل المثال نراه يجسد الفلاح بيقينه البسيط، ويقارن بين هذا اليقين وحالته ولهاثه إلى ذلك اليقين، راسماً سؤالا وجوديا، لم يكن له وجود ملموس في شعر الرومانسية العربي، أو على الأصح كان له وجود، لكنه ظل في مرحلة التبرم والتوقف عند حدود إثارة السؤال من دون محاولة التعاظم للإجابة عنه، من هنا يطل الوعي بالآخر في شعره بوصفه حالة لمحاولة التقرب إلى الذات والوعي بها، فالوعي بالآخر جزء مهم في ظل سيادة فلسفات في اللحظة الآنية ترى أننا لا يمكن أن نتعرف على الأنا من دون معرفة الآخر والاقتراب منه.

إلى أي مدى تطغى فكرة الصراع بين عالمين متخيل وواقعي في قصيدة «اعترافات العمر الخائب» لفاروق شوشة، التي اخترتها في دراستك الثالثة بالكتاب؟

الصراع بين المتخيل النموذجي والواقعي هو باب الشعر الأساس في كل عصر وزمان، ولا يقف ذلك عند الأمل الإنساني وعنفوانه، وتحققه وتلاشيه، إنما يتخطاه إلى صورة متخيلة للذات، وهي منحى إنساني فضلا عن الشاعر في تكوينه الخاص.. وقصيدة فاروق شوشة (اعترافات العمر الخائب) هي قصيدة الهزائم الكبرى والانكسارات على مستويات عديدة، هي قصيدة التماثيل، التي نصنعها لأنفسنا، ولكننا في لحظة الحساب أو لحظة العسف نجد أنفسنا لم نقترب منها قيد ذراع، ولهذا تظل هذه التماثيل وهذه الآمال موجودة ولها حفيف في الأفق، وتشكل خضرة باهظة الجمال، وتأتي دائماً فتية مورقة، هو نص الصراع مع العالم، للاقتراب من الصورة المتخيلة للذات، وهو نص يعيدنا من دون وعي إلى نصوص سابقة لشعراء سابقين، وهذا ليس بحثاً عن أبوة أو مصدرية، وإنما يمكن أن يكون بحثاً عن إجابات عديدة لسؤال واحد في لحظات زمنية متباعدة، فالسؤال واحد، ولكن الإجابة عن هذا السؤال تأتي مختلفة من شاعر إلى آخر.

حالات إبداعية
ينشغل الدكتور عادل ضرغام بالبحث عن رؤى المبدعين وكيفية تمثيلاتهم للذات والآخر، وأبرز العديد من الجوانب لدى أمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وفاروق شوشة وغيرهم، وله دراسة بعنوان «شعر الأبيوردي دراسة أسلوبية» وهي رسالته التي نال عبرها درجة الدكتوراه في كلية دار العلوم- جامعة القاهرة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى. ومن أبرز كتبه ودراساته: «السؤال الميتافيزيقي» دراسة في قصيدة (صوت تائه) لأبي القاسم الشابي، «تطور الشعرية» دراسة في قصيدة الأمير المتسول للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، «بناء الوعي» دراسات في الأدب السعودي، «تشكيل الإيديولوجيا في رواية النيل الطعم والرائحة»، للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل.