نحن شعب أوروبا
من الصعب اليوم أن نحدد حجم الدعم في أوروبا الذي يمكن حشده لوثيقة تبدأ بالكلمات "نحن شعب أوروبا"، ولكن الوضع في القارة الآن ليس أسوأ مما كان عليه في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فقد تطلب الأمر العمل السياسي الجريء لتغيير مسار التاريخ والسماح بميلاد اتحاد جديد ومستقر، وأوروبا تستحق ما لا يقل عن ذلك اليوم.
يبدو أن الأوروبيين الذين يتوقون إلى إحياء عملية توحيد القارة حولوا انتباههم مؤخراً إلى تأسيس الولايات المتحدة، غير أن كثيرين يرفضون رغم ذلك سابقة الولايات المتحدة على أساس أن مشاكل اليوم تختلف كثيراً عن تلك التي واجهت الولايات المتحدة آنذاك، وآخرون، وهم أولئك الذين يقبلون أن مبادئ الفدرالية ربما تكون مناسبة لمعالجة مشاكل السوق الأوروبية المشتركة، يشعرون باليأس على أساس أن «الشعب الأوروبي» القادر على إنشاء مثل هذه البنية السياسية الجديدة مفقود.ولكن هناك أوجه تشابه مذهلة بين سنوات تأسيس أميركا والأزمة السياسية والاقتصادية الجارية في الاتحاد الأوروبي، والواقع أن إنشاء دستور الولايات المتحدة وميلاد الشعب الأميركي من الأسباب التي تمنحنا الأمل في إمكانية حل بعض القضايا الأكثر صعوبة التي تواجه أوروبا ذات يوم.
كانت السنوات التي تلت حرب الاستقلال الأميركية عصيبة، وبموجب وثائق الكونفدرالية (الدستور التمهيدي للولايات المتحدة)، أنشأت المستعمرات البريطانية السابقة الثلاث عشرة سوقاً مشتركة، مع مؤسسات مشتركة، بما في ذلك بنك مركزي، ولكنها رغم ذلك أنفقت قدراً كبيراً من الوقت في نزاعات حول السياسات المالية، والخلافات بين الدائنين والمدينين، والمعارك حول العملة، ونشأت الانقسامات بين الولايات الشمالية والجنوبية، وبين الولايات الأصغر حجماً والأكبر حجما، وبدا الأمر وكأن البلد الشاب على وشك أن يمزق نفسه إربا.وفي ثمانينيات القرن الثامن عشر أعادت مجموعة صغيرة من الزعماء السياسيين الأميركيين تأطير هذه المشاكل بشكل كامل، والواقع أن رؤيتهم الأساسية تُعَد وثيقة الصِلة بأوروبا اليوم بقدر ما كانت مهمة في الولايات المتحدة آنذاك، فالمشكلة التي واجهت البلاد لم تكن ناتجة عن سوء نية من الساسة أو عدم اطلاع أو جهل من جانب المواطنين؛ بل كانت نتيجة مباشرة لبنية سياسية غير مناسبة.فبموجب وثائق الكونفدرالية- كما هي الحال في الاتحاد الأوروبي اليوم- كانت كل السياسات محلية حقا، فكانت الولايات تعقد الانتخابات لاختيار المسؤولين بشكل فردي، ولم يكن هناك أي مسؤولين منتخبين (أو أحزاب) يخوضون الانتخابات على أساس برامج تتخطى حدود الولايات ذات السيادة، ثم أدرك زعماء مثل ألكسندر هاملتون، وجون جاي، وجيمس ماديسون، وجورج واشنطن أن هذه البنية تكافئ ضيق الأفق على حساب «المصلحة الوطنية»؛ المصالح المشتركة بين الولايات الأعضاء في الاتحاد.وفي التصدي لهذه المشكلات، اقترح واضعو دستور الولايات المتحدة إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام شعب الولايات المتحدة، وتمكينها بحيث يصبح بوسعها رعاية مصالح الاتحاد بالكامل والتوسط في النزاعات بين الولايات الأعضاء، ولتحقيق هذه الغاية قرروا تأصيل سيادة الولايات المتحدة في شعبها، وكان مفهوماً جديداً حقا.ولكن في تحديد السيادة الوطنية في «الشعب»، لم يصروا على مبدأ واحد للسيادة، بل اخترعوا بدلاً من ذلك فكرة السيادة المشتركة، نظام الفدرالية الذي سمح بمستويات متعددة من الحكم وجعل الولاءات المحلية والإقليمية والوطنية متزامنة ومتلاقية بدلاً من كونها متنافسة.من المؤكد ألا أحد يقترح أن يستنسخ الاتحاد الأوروبي ببساطة دستور الولايات المتحدة، ولكن المبادئ التي أقرها واضعوه تشكل قيمة واضحة بالنسبة إلى أولئك الذين يحاولون إيجاد الحلول للتحديات التي تواجه أوروبا اليوم. الواقع أن الصراع بين اليونان ودائنيها ألقى الضوء على عدم التوافق بين الاقتصاد القاري المتزايد التكامل والبنية السياسية الأوروبية المشيدة في الأساس حول مصالح ولايات ذات سيادة، وفي غياب حكومة عابرة للحدود وتتمتع بالحافز والشرعية والقدرة على حل الصراع، لجأت اليونان ودول أخرى في منطقة اليورو إلى تحدي كل منها سيادة الدول الأخرى.فحاولت اليونان أولاً وفشلت في استخدام الاستفتاء لفرض تفضيلاتها على دائنيها، الذين استخدموا بعد ذلك نفوذهم المتفوق لجعل نتائج الاستفتاء صورية وموضع جدال، ووفقاً لأحدث اتفاق بين الجانبين، يتعين على الحكومة اليونانية أن تسعى إلى الحصول على موافقة دائنيها على كل مشروع تشريعي ذي صِلة قبل طلب المشاورة العامة بشأنه أو حتى عرضه على برلمانها.إذا فتحت أي صحيفة أوروبية تقريبا فستجد انتقادات للوزراء والساسة المنتمين إلى جميع التيارات في الأزمة اليونانية، ولكن كما كانت الحال في السنوات المبكرة من عمر الولايات المتحدة، لا تكمن المشكلة في نوعية الساسة في أوروبا، بل في البنية السياسية للاتحاد الأوروبي، وما دام لا أحد من الساسة أو الأحزاب يقدم برامج تتنافس على الأصوات في ألمانيا واليونان، وفي فنلندا وفرنسا، وفي مختلف أنحاء القارة الأوروبية، فإن نشوء الأزمات في المستقبل يظل أمراً حتمياً لا مفر منه، وإن ما تحتاج إليه أوروبا هو ساسة أوروبيون.قد يزعم البعض أن الدعوة إلى إنشاء حكومة وطنية في وسط الاضطرابات الحالية أمر غير واقعي، وقد يصر آخرون على الانتظار حتى تنشأ هوية أوروبية قبل ابتكار طرق لإقامة دولة أوروبية موحدة، ولكن هنا أيضا يقدم التاريخ الأميركي المبكر سبباً لتجاهل المشككين.تقول أولى كلمات الدستور الأميركي: «نحن شعب الولايات المتحدة»، ولكن رغم هذا، يشير المؤرخ الأميركي جوزيف جيه. إيليس في كتابه «الرباعية: تنظيم الثورة الأميركية الثانية»، إلى أن قِلة في البلاد كانوا يحملون هوية أميركية قوية في وقت كتابة تلك العبارة، فالغالبية العظمى من مواطني البلاد في ذلك الوقت عاشوا حياتهم داخل دائرة لا يتجاوز نصف قطرها ثلاثين ميلاً حول محل ولادتهم؛ وكانت ارتباطاتهم السياسية، إن كان لهم أي ارتباطات من ذلك النوع، بولاياتهم لا الاتحاد.ولم تتبدل تلك الحال إلا بعد إنشاء حكومة وطنية، فربما كان دستور الولايات المتحدة متأصلاً في «شعب الولايات المتحدة»، ولكن لم يحدث إلا بعد صياغته أن بدأ أولئك الناس يفكرون في أنفسهم على ذلك النحو.من الصعب اليوم أن نحدد حجم الدعم في أوروبا- في ظل الانقسامات والشكوك والعواطف- الذي يمكن حشده لوثيقة تبدأ بالكلمات «نحن شعب أوروبا»، ولكن الوضع في القارة الآن ليس أسوأ مما كان عليه في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فقد تطلب الأمر العمل السياسي الجريء لتغيير مسار التاريخ والسماح بميلاد اتحاد جديد ومستقر، وأوروبا تستحق ما لا يقل عن ذلك اليوم.لازلو بروست & ديفيد ستارك* لازلو بروست أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. وديفيد ستارك أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»