منذ أن تنامت مخاطر العجز المالي في الميزانية اتجهت الحكومة إلى اتخاذ عدد من الإجراءات الهادفة لكبح هذا العجز ابتداء من إعادة تسعير الديزل مطلع العام الحالي، مرورا برسالة وزارة المالية الى مؤسسات الدولة بضرورة ألا يتجاوز سقف إنفاقها في مشروع ميزانية السنة المالية 2016/2017 نظيره في السنة الحالية، وصولا إلى أسعار الايجارات على املاك الدولة وإعداد اول ميزانية منخفضة عن سابقاتها منذ نحو 10 سنوات، فضلا عن استبدال سيارات القياديين ببدل نقدي.

Ad

ورغم وجاهة بعض هذه الإجراءات، فإنها لم تصب في خانة إصلاح الاقتصاد لأنها جاءت مفككة، ولم تأت ضمن مشروع واضح يستهدف معالجة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الكويتي، فلا معالجة لاختلالات سوق العمل ولا خلق لإيرادات غير نفطية بشكل ملموس ولا حتى وضع حدود لدور الدولة في حجم الاقتصاد.

فكل القرارات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة العجز المالي، رغم صحتها، لا تشكل أكثر من نقطة صغيرة في دائرة الاصلاح الاقتصادي، الذي يتطلب اتخاذ قرارات أكبر وأشمل ووفق خطة واضحة لتصحيح اوضاع تتعلق بأساسيات الاقتصاد، مثل رفع نسبة القطاع الخاص الحقيقي والمنتج من الناتج المحلي الاجمالي، وتغيير فلسفة الانفاق في الميزانية من الاستهلاكي الى نظيره الاستثماري، الى جانب استقطاب الاموال الاجنبية وتحفيز المحلية لتكون لدينا بيئة استثمار جاذبة تمكن الدولة من جباية الضريبة، فضلا عن خلق فرص العمل للشباب وغيرها الكثير من المميزات.

والأهم من إصدار قرارات لا يتعدى أثرها على الميزانية بضعة ملايين، خلق بيئة استثمارية جاذبة، فالتعامل مع العجز في الميزانية ليس بالضرورة أن يكون ماليا بحتا، بل يرتبط بعناصر مهمة في الادارة العامة للدولة التي فشلت في اكثر من مناسبة في أن تحول خططها إلى واقع عملي.

وهنا يمكن استذكار مشروع تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري، الذي بدأ عام 2003 مع وعود بإنجازه كاملا عام 2035، اي ان المركز التجاري والمالي سيحتاج الى 32 عاما، في حين اننا لم نر خلال الـ12 عاما سابقة الا تراجع المؤشرات التنافسية الخاصة بالمشروع!

بل إن اخر مؤشرات التنافسية العالمية تشير الى ان الكويت لا تزال تتربع في مراتب متدنية للغاية عندما يتعلق الامر بالاقتصاد او البيئة الاستثمارية تحديدا، فنحن في الترتيب الـ126 عالميا في سياسات مكافحة الاحتكار والـ86 عالميا في المحسوبية بالقرارات الحكومية، والـ102 عالميا في عبء الاجراءات الجمركية، وهي مؤشرات كفيلة بأن تجعل المستثمر يتجه الى دولة قريبة تحقق مؤشراتها مراتب الصدارة عالميا.

قرارات الاصلاح الاقتصادي ليست استعراضا لكفاءة الحكومة في كونها تصدر من وقت لآخر قرارا يثبت عدم محاباتها لطرف تجاري أو تنفيذي، فالمعالجات غير المكتملة والمقتصرة على قرارات متفرقة يمكن أن تؤدي لنتائج سلبية للغاية اذا لم ترتبط بخطة قياس واضحة وجدية.

لابد أن تنسف أدوات قياس خطة التنمية الحالية، التي تزعم الحكومة- على صعيد سنوي- أنها حققت 80 في المئة منها، من اساسها لترتبط بشكل مباشر باحتياجات الاقتصاد الكويتي في سوق العمل والتركيبة السكانية، ولابد من خلق بيئة استثمار وغيرها من المطالب التي تحدث تحولا جذريا في ايرادات الدولة وفلسفة الميزانية.

الاصلاح المالي جزء من عملية اصلاح إداري واقتصادي اكبر، وهنا يمكن التساؤل عن آليات معالجة الهدر المالي في القطاع العام، لنعرف ان كانت الايرادات المحققة من رفع اسعار الايجارات والديزل وما سيتبعها من ايرادات اخرى اكبر ترتبط بالكهرباء والبنزين ستصب في اتجاه خدمة أحد اهداف الاقتصاد من حيث تنمية الايرادات غير النفطية، أم انها ستتسرب في اتجاه الهدر المالي.

إذا علمنا ان سعر برميل النفط الكويتي حسب اغلاق امس بلغ 42.01 دولارا، اي دون سعر الاساس المقدر في الميزانية عند 45 دولارا للبرميل، فهذا يعني اننا امام مزيد من التدهور في فرضيات العجز المالي، في ظل سوق تزداد به التحديات بشكل يفوق قدرة المنتجين على التحكم في الأسعار وآليات السوق.

في زمن الوفرة المالية يكون الفشل مقبولا لأن هناك إنفاقا استهلاكيا عاليا تضاعف خلال 16 عاما بنحو 6.8 مرات، يغطي الصورة القبيحة لسوء الإدارة، أما في سنوات العجز فلا مجال لأي معالجات غير مكتملة خصوصا، فإذا لم تكن المعالجة سليمة فستنكشف الصورة على مشكلات اكبرها في الاقتصاد وأقلها في الخدمات والمشاريع.

مضى نحو عامين على تصاعد التحذير من مخاطر العجز، ولم يقابله إلا القليل من الإجراءات الخاصة في الإصلاح الاقتصادي الذي يستوجب ايجاد منظومة اصلاح اقتصاد من خلال تطوير البيئة الاستثمارية لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية في مختلف المجالات، ما سيحقق للدولة عوائد غير نفطية من ناحية، وفرص عمل في القطاع الخاص تخفف العبء عن كاهل القطاع العام الذي يستنزف نحو نصف الميزانية العامة للدولة من ناحية أخرى.