المساحة 13!
أخذني صديقي في سيارته بغتة دون أن يخبرني عن وجهتنا، كنت قد وصلت للتو من المطار مباشرةً إلى بيته، وخلال الترحيب السريع بي هو وأفراد أسرته تناولت "فنجالاً" وحيداً من القهوة العربية الشمالية التي يعشقها ثم استعجلني بالركوب ومرافقته وكأنما نحن على موعد مسبق قد تأخرنا عليه، انطلق السائق ساعة إغلاقنا أبواب السيارة نحو وجهته، واتضح لي أنني الوحيد الذي كما الأطرش في الزفة في هذه المركبة، ولم أسأل!
كان الوقت مساءً، والسائق ينعطف بالمركبة يميناً ويساراً في داخل منطقة الشويخ حتى وصلنا إلى جزء من المنطقة فيه الشوارع شبه مظلمة بعضها شبه خالٍ وبعضها يعج بالحركة، كل ما استطعت أن أميّزه أن هذا الجزء من المنطقة مخصص لبعض المخازن أو الورش وبعض المحلات التي لم أتأكد من ماهية بضاعتها، فجأة دخلنا شارعاً ضيّقاً ليس أقل ظلمة من الشوارع الأخرى التي مررنا بها للتوّ، وليس أكثر حركة، توقف السائق تقريباً في منتصف هذا الشارع الضيق شبه المظلم أمام مكان يشبه مقهى أو محل زهور في شارع خلفي في إحدى المدن الغربية، ألقيت نظرة من وراء نافذة السيارة إلى داخل المكان قبل أن يطلب مني صديقي الترجّل من المركبة، أذهلني جمال المكان وشاهدت بعض اللوحات معلّقة على الجدران صرخت بعبارة تتأرجح بين اليقين والسؤال كمن عثر على تخمين ذكي للغز أعياه: هذا "غاليري" الفنانة التشكيلية ميّ السعد، لم يعلّق صديقي وإنما اكتفى كعادته أحياناً بابتسامة كالماء تشبه روحه بالصفاء والنقاء، أدرت بصري سريعاً حول واجهة المكان ونحن على وشك الدخول لعلّ لافتة تؤكد لي يقيني فلم أجد سوى جملة "المساحة 13" على أحد جدرانه الخارجية، ومنذ الخطوة الأولى التي تتجاوز فيها عتبة المدخل يمسك اللون بتلابيب عينيك وتمسك الحميمية بتلابيب روحك، صالة صغيرة نسبياً في ركنها الأيسر أريكتان أنيقتان متوسطتا الحجم تحتلان الزاوية، ومنضدة كبيرة ارتفاعها لافت محاطة بعدد من الكراسي تتوسط المكان، ولوحات كبيرة الحجم وأرفف تحمل الكثير من أحواض النبات متوسطة الحجم على الجدارين الأيمن والأيسر من الصالة، وفي أقصى الصالة مدخل صغير يفضي إلى ما يشبه "الكوفي شوب" الصغير أو مكان لتقديم المشروبات وبعض الحلويات، وفي أقصى يمين الصالة درج إلى الدور العلوي، ثمة مكان حميمي بين الدورين عبارة عن مكتبة وقاعة صغيرة للقراءة، الدور العلوي الذي يعتبر أكبر مساحة في هذا المكان يضم معظم أعمال الفنانة ميّ، هنا مساحة السحر الأخاذ حيث تنثال الروح لوناً شفيفاً يذوب في كرنفال الألوان في اللوحات التي وزعت في المكان بذوق رفيع يتيح للعينين السباحة في جداول الجمال، وللفكر التوغل في عمق الرؤى والأفكار المتجاوزة للفنانة ميّ، أعمال إبداعية في غاية الدهشة، لوحات مخاتلة ظاهرها بهجة اللون وجوهرها آهة الوجع، وأخرى ظاهرها اليأس وباطنها الأمل، ولوحات أخرى رُسمت بماء الأغاني، وأخرى بجمال النغم، وأخرى بشفافية الشعر، إن ما يذهلك في ميّ السعد قدرتها على إحالة كل شكل من أشكال الفن والإبداع إلى لون، واللون إلى صوت وحركة حيّة تكاد تشعر بنبضها كل ذلك مصحوب بمساحة شاسعة لحرية التخيّل والتفسير للمتلقي.ميّ السعد شكراً لما تمنحنا ألوانك من مساحة كافية للحياة بفرح حتى وإن حملت الرقم 13.