في الرابع من ديسمبر 2008 أمرت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورغ أجهزة الشرطة الأوروبية كافة بمحو وتدمير قاعدة بيانات أنشأتها للبصمة الوراثية لعشرات الآلاف من الأفراد غير المدانين بأي جرم، وأمرت فقط بالاحتفاظ بالبصمة الوراثية للمجرمين المعاقبين بحكم نهائي، معتبرةً أن إجبار الإنسان على تقديم بصمته الوراثية والاحتفاظ بها مخالفة جسيمة لحقوق الإنسان وآدميته وخصوصيته وحقوق الأسرة، ما دفع الشرطة البريطانية المتقدمة في هذا المجال لمحو تلك البيانات رغم أن بريطانيا كانت قد مرت للتو بأحداث 7/7 الإرهابية التي أودت بحياة 52 شخصاً وجرح 700 فرد وشلت مدينة لندن يوماً كاملاً.

Ad

ورغم أن أصواتاً في بريطانيا في تلك الفترة طالبت بإجراءات أمنية استثنائية بسبب تنظيم لندن لدورة الألعاب الأولمبية، فإن المحكمة رأت أن آدمية المواطن والمقيم وخصوصية الأسر أهم من أي اعتبار آخر، وكذلك فعلت إسبانيا وفرنسا رغم وقوع أحداث إرهابية على أراضيهما.

وفي الولايات المتحدة الأميركية وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 ومقتل 5 آلاف شخص، وإسقاط طائرات مدنية، وضرب رموز أميركا الاقتصادية (برج التجارة العالمي) والعسكرية (مبنى البنتاغون) فإن البيت الأبيض والكونغرس وخلال إعداد قانون (PATRIOT ACT) اتفقا من الناحية الإنسانية والأخلاقية على عدم طرح موضوع جمع البصمة الوراثية بشكل عشوائي أو فرضها على المقيمين وزائري الأراضي الأميركية، علماً بأن جمع البصمة الوراثية الجماعي مطبق فقط في الإسطبلات على الخيول والبهائم، وفي حدائق الحيوانات والمحميات الطبيعية.

 وفي الكويت وخلال أيام يقدم قانون يفرض جمع البصمة الوراثية جبراً على الجميع، وإنشاء قاعدة بيانات لها، ويقره مجلس الأمة في نقاش سطحي لم يستغرق سوى فترة زمنية محدودة، رغم مخالفته للمواد 8 و9 و20 من الدستور، والمخالفة الأخلاقية والإنسانية له لتعرضه لأخص خصوصيات الإنسان وآدميته من نسب وعلاقات حميمة لا تسمح التشريعات الإنسانية ولا الدينية بانتهاكها إلا في حالة الاتهام بجريمة أو نزاع أطراف على النسب أو الحصول على هوية بلد ما طبقاً لصلة الدم.

ورغم ألمنا الشديد وجرحنا الغائر على شهداء جريمة تفجير مسجد الإمام الصادق، فلا يمكن أخذ هذا الاختراق الأمني كــ "ضرورة قصوى" تبيح المحظورات، كما جاء في فتوى وزارة الأوقاف الكويتية بشأن البصمة الوراثية، ولا يجوز أن تنتهك آدمية الأسر الكويتية والمقيمين بواسطة هذا القانون، كما أن هناك تساؤلاً: ماذا كان سيفيد أمنياً لو كانت البصمة الوراثية للإرهابي فهد القباع موجودة لدى السلطات الأمنية، فهو دخل البلاد الساعة الخامسة فجراً ونفذ عمليته في الثانية عشرة ظهراً من اليوم نفسه... فماذا كانت ستفعل البصمة الوراثية لمنع الجريمة؟!

لذا فإن هذا القانون وطريقة إقراره من مجلس الأمة الذي اعتاد تمرير قوانين ذات طابع أمني خطير بكل سهولة ودون تمحيص، سيضع بيانات ذات طبيعة حساسة وفردية في متناول السلطات، وهو أمر لا يوجد له مثيل في العالم، كما أن هناك شكوكاً في قبول أفراد الهيئات الدبلوماسية، ومن في حكمهم، بإعطاء البصمة الوراثية لهم ولأبنائهم، وهناك أيضاً تساؤل أخلاقي دولي فحواه: هل يحق لدولة الكويت أن تحتفظ بالبصمة الوراثية لزائرين أو مشاركين في مؤتمرات دولية على أرضها؟ وهل سيكون لكل ضابط جوازات في مطار الكويت قطعة قطن لأخذ عينة بصمة وراثية من كل زائر في "الويكند" أو راكب ترانزيت قرر المبيت داخل الكويت؟!

بلا شك إن هذا القانون والبيانات التي ستجمع نتيجة له جبراً من الناس ستكشف أموراً سترها الله سبحانه وتعالى منذ سنوات من فوق سبع سماوات، وستفتح متاهات من الأزمات الأسرية، فماذا ستفعل "الداخلية" لو اكتشفت أن مقيماً أتى بأسرته من بلده بأوراق رسمية، وأن أحد أبنائه ليس ابنه البيولوجي؟ هل سترفض منحه الإقامة وتخبر والده بذلك أم ماذا ستفعل؟ علماً بأنه في حالات الحروب، لا سمح الله، أو الثورات والفوضى، تصبح هذه البيانات متاحة للعرض للعامة كما حدث في الغزو العراقي الغاشم، أو إذا تمكن عدو خارجي أو "هاكرز" من الحصول على بيانات تخص البصمة الوراثية لكامل الشعب الكويتي، ولو حدث ذلك بعد سنوات طويلة، لذا فإن جمع مثل هذه البيانات لغير المجرمين ذو مخاطر كبيرة على السلم الأسري والاجتماعي.

لذا نتوجه إلى والدنا وقائدنا حضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد بالرجاء أن يتفضل سموه بإرجاء التصديق على القانون، واستمزاج الآراء حوله من كل الأطراف التي يراها، أو يوجه الحكومة بالذهاب بهذا القانون إلى المحكمة الدستورية قبل تطبيقه وصرف مبالغ على مقتضيات تنفيذه من مختبرات وكوادر فنية وإدارية، وذلك حماية لمقومات المجتمع الكويتي ودرءاً لمفاسد كبيرة ستقع بسببه ولو بعد سنوات طويلة.