لم تكن الكتابة في أي يوم من الأيام تحتل مساحة شاسعة في يوم الإنسان كما هي في اللحظة الراهنة. الكتابة عبر مراحل التاريخ البشري كانت دائماً تشكّل امتيازاً لفئة من المجتمع دون غيرها، ولكن مع تطور المجتمعات الإنسانية، وقيام الدول العصرية التي جعلت من التعليم أمرا إلزاميا، تلاشت الأمية، وبرزت مجتمعات تتخذ من القراءة والكتابة أساساً لتعاملاتها في الحياة.

Ad

لقد عمدت مجموعة من الدول الغربية وأميركا واليابان، ومنذ ما يزيد على عقد من الزمن، إلى إلزام مواطنيها باستخدام مواقع شبكة الإنترنت. ووقتها ارتفعت أصوات، لم تكن تدرك أهمية الخطوة، تستنكر إلزام المواطنين بما لا طائل من ورائه. لكن حياة اليوم تثبت أن تلك الحكومات كانت على حق، ويرى بما لا يدع مجالا للشك أن من لا يعرف الطريق إلى مواقع الإنترنت، فهو يعيش لحظة عصره بشكل ناقص، أو بقول آخر هو يعيش متخلفاً عن زمانه.

صحيح أنني في الغالب أبدأ يومي بقراءة الجرائد اليومية، لكن الصحيح أيضا أني، وكسائر بلايين البشر، في كل مكان من المعمورة، أبدأ ممارسة مهام يومي الأهم، لحظة وصولي إلى المكتب، ولحظة أجلس أمام شاشة الكمبيوتر، وإذا صادف أن انقطع التيار الكهربائي في مكان عملي، وتعطل جهاز الكمبيوتر، فجميع أعمالي ستتعطل، وجل تلك الأعمال يرتكز على الكتابة. وأنا هنا لا أقصد الكتابة الإبداعية، بمعنى كتابة القصة والرواية، لكنني أقصد وصلي بالعالم.

الكتابة كانت حكراً على طبقة من الناس، لكن إنسان اليوم ما عاد يستطيع ممارسة حياته بلحظتها الراهنة من دون أن تكون الكتابة أداته لذلك. الإنسان يطّلع على خبايا حسابه البنكي لحظة بلحظة عبر الكتابة، فرسائل البنوك تصلك وعليك قراءتها، وربما تطلّب الأمر دخولك على موقع البنك لمراجعة معلومة بعينها.

إن بحث أي إنسان عن أي موضوع، ما عاد يتطلب المشي إلى المكتبة، بل هي ضغطة زر تجعله يجد آلاف الملفات وقد صارت بحوزته.

التليفون الذكي أصبح أقرب للبعض من زوجاتهم وأصدقائهم. ومن خلال شاشة التليفون الصغيرة، صار أحدنا يتواصل مع العالم. لذا فإن تعلم أساسيات الكتابة، ما عاد يخص الشباب الراغب بتعلم كتابة القصة القصيرة والرواية، أو من يشتغل بالعمل الصحافي. بل إن الكتابة يوما بعد يوم أصبحت تلازم الإنسان في كل لحظات يومه، تعينه على معرفة ما يجري من حوله وفي العالم، وتكون لسان حاله في التعليق على أي موضوع، في شبكات التواصل الاجتماعي. ومؤكد أن من يحيا دون اتصال بشبكات التواصل الاجتماعي، فهو، من دون أن يدري، يحيا بعيدا عما يحيط به.

في غضون العقد الأخير صارت دورات الكتابة الإبداعية بازدياد مطرد حول العالم، ولكن دول الغرب وأميركا واليابان، وكما سعت في العقد السابق إلى تعليم أبنائها أصول الدخول إلى شبكة الإنترنت، فإنها منخرطة اليوم، عبر مؤسسات المجتمع المدني، في تعليم أبنائها أسس لغة التواصل مع الآخر عبر الكتابة، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي.

العالم يزداد توحشا، وهذا يجبر الإنسان، في شتى بقاع الأرض، على نوع من التقوقع، نوع من الهروب ولكن ليس الانسحاب. ففي أي لحظة يجد الإنسان فسحة وقت أمامه، يضيء شاشة تليفونه النقال وينطلق في وصله مع الآخر، أينما كان هذا الآخر، ووسيلته في ذلك هي الكتابة. سواء كان كلمة أو سطرا أو فقرة.

مر العالم بطور الشفاهة، قبل أن ينتقل إلى طور القراءة والكتابة. ولعقود وقرون، كانت القراءة تحل في المرتبة الأولى وبعدها تأتي الكتابة. لكن عجلة الحياة دارت، وصرنا نعيش في عصر الكتابة والقراءة، فالكتابة تأتي قبل القراءة وقبل أي شيء آخر.