تختبرنا الحياة لا بما تحرمنا إياه فقط، بل بما تمنحنا إياه أيضاً، الكثرة والقلّة لهما نفس الأثر في إظهار معادننا الإنسانية الحقيقية، كلتاهما تظهران أسوأ ما فينا، وكلتاهما تنزعان القشرة الخارجية الغليظة التي تغطي عورة أخلاقنا وتسقط عنها ورقة التوت وتجرّد ذواتنا من ثيابها، لتقف عارية أمام كل العيون لتراها كما هي دون زيف أو خداع أو رياء.
وهذا الاختبار هو أصعب اختبارات الحياة لنا وأكثرها قسوة، ولا ينجح الكثير منا في هذا الاختبار، قد يظن الذين لم تمنحهم الحياة أن اختبارهم هو الأقسى والأشدّ لما يصاحبه من ذلّ الحاجة، وربما المهانة، والضعف، إلا أنني أعتقد أن اختبار الذين منحتهم الحياة فوق ما يتمنون لا يقلّ قسوة ولا صعوبة، وربما كان الأشدّ!فالذين تمنحهم الحياة السلطة تجعلهم على حافة الظلم، والذين تمنحهم القوة تجعلهم على جرف الافتراء، والذين تمنحهم المال تقودهم إلى شفير هاوية من الكبر والغرور، إن الذين تمنحهم الحياة ما يكفيهم من أسباب الشعور بالعظمة بأي صورة من الصور، تمنحهم بذات الوقت ما يكفي من إغراءات الخطيئة المصاحبة لتلك العظمة، مما يجعل السبيل إلى مقاومة تلك الخطايا في غاية الصعوبة والمشقة على النفس البشرية الأمّارة بالسوء غالباً، بقدر ما يملك المرء من قوة أو سلطة أو مال، بقدر ما يشعر أنه في غير حاجة للآخرين، وهذا الشعور تحديداً هو الخطوة الأولى نحو مساوئ الأخلاق، هذا الشعور هو الذي يبدأ بفرك مصباح المارد الشرير المختبئ في أعماقنا ليخرجه، وهو الذي يسقط أقنعة الصلاح من على وجوه قلوبنا، إن الشعور بعدم الاحتياج للآخرين هو الذي يجعلك تتحرر من ثوب الخلق الكريم، وهو المحرك الأساسي لكل السلوكيات الشريرة، وهو الذي يفقد المرء بوصلة المبادئ الإنسانية التي تتشكل من خلالها صورتك الاجتماعية في عيون الآخرين، فهؤلاء الآخرون يصبحون بالنسبة لمن لديه هذا الشعور غير مرئيين، وإذا كانوا مرئيين فهم أدنى كثيراً من أن يقيّموه، وأقل كثيراً من أن يحرص على صورته في أعينهم، فأعينهم بالنسبة له ليست سوى سلال مهملات!هذا في حالة إحساس المرء بعدم حاجته للآخرين، إلا أن المعضلة الأكبر هي عندما يتيقن المرء من حاجة الآخرين له، هنا توضع إنسانيته فعلاً على المحك، ويتعرى جوهر خلقه، إذ ليس مدى حاجتك للآخرين هو فقط ما يسقط الأقنعة عن جوهرك الحقيقي ومعدنك الإنساني، ولكن أيضاً حاجة الآخرين لك اختبار آخر يظهر خفايا ذاتك، ويبيّن بصورة لا تقبل اللبس ما تخفيه من خير وشرّ، ويظهر مدى كرمها أو دناءتها.الإشكالية الحقيقية هي أن معظمنا يفّصل أخلاقه على مقاس حاجته للآخرين من عدمها، لذلك تسوء أخلاق معظمنا في حالة الاستغناء عنهم، وتصلح جبراً في حال الحاجة لهم، فالذين تمنحهم الحياة مطلب شهواتهم معرّضون أكثر لفقد إنسانيتهم من أولئك الذين تحرمهم الحياة ذلك، فلو كنّا نفصّل أخلاقنا على مقاس حاجتنا لأنفسنا، وحاجتنا لذوات خيّرة نتصالح معها لتصلح لنا الحياة لما ساءت أخلاقنا سواء أعطتنا الحياة أو منعت!
توابل - ثقافات
اختبار الحياة الصعب!
08-10-2015