من المعروف عن القائمين على التنظيم المالي حرصهم على اتخاذ مسلك مدروس وحذر في التعامل مع التغيير في عموم الأمر، ولكن في العالم النامي، تنقلب هذه السمعة رأساً على عقب، ففي بعض البلدان الأكثر فقراً في العالم، أثبت محافظو البنوك المركزية استعدادهم لاتخاذ قرارات جريئة، تبني أساليب إبداعية في مسعاهم إلى توسيع قاعدة المشاركة في النظام المالي الرسمي، ودعم الاستقرار المالي، ووضع بلدانهم على المسار إلى النمو الاقتصادي الشامل المستدام.

Ad

تتطلب زيادة الشمول المالي إعادة النظر جوهرياً في بنية النظام المالي للدولة والكيفية التي يعمل بها، كما يستلزم الأمر في كثير من الأحيان استخدام أدوات من خارج مجموعة الأدوات التقليدية التي يستعين بها محافظو البنوك المركزية، ففي كينيا، على سبيل المثال، غير المسؤولون الإطار التنظيمي للسماح بنمو التمويل المحمول. وفي ماليزيا لعب البنك المركزي دوراً رائداً في رفع مستوى الوعي المالي بين عامة الناس. وفي الفلبين، ساعد البنك المركزي في مضاعفة عدد نقاط الاتصال، حيث يستطيع المستهلكون الحصول على الخدمات المالية، فدعم إنشاء 517 مكتباً للصيرفة المتناهية الصِغَر، والعديد منها في بلديات لا يوجد فيها فروع للبنوك التقليدية.

وعلى نحو مماثل، تعهد بنك تنزانيا بالتزامات محددة لزيادة الشمول المالي في إطار إعلان مايا من التحالف للاحتواء المالي، الذي يمثل التزاماً من صناع السياسات في العالم النامي بإطلاق العنان للإمكانات الاجتماعية والاقتصادية للفقراء. وكانت النتيجة هائلة وفاقت التوقعات بأشواط، فقد حققت تنزانيا هدفها المتمثل بتزويد 50% من مواطنيها البالغين بالقدرة على الوصول إلى الخدمات المصرفية قبل عام كامل من الموعد المحدد، مما يجعل تنزانيا رائدة عالمية في الخدمات المالية الرقمية. وكما هي الحال في كينيا المجاورة، كان العامل الذي غير قواعد اللعبة تبني تطبيقات التمويل عن طريق أجهزة الاتصال المحمولة على نطاق واسع، وقد قال بينو ندولو، محافظ البنك، "قد يبدو الأمر جامحا، ولكن يتعين علينا أن نسمح للإبداع بسبق التنظيم".

وفي حين تنير منطقة شرق إفريقيا الدرب عندما يتعلق الأمر بالنقود الإلكترونية، تتبنى أجزاء أخرى من العالم أساليب إبداعية مختلفة، ففي العام الماضي، أقر الكونغرس في كولومبيا قانوناً يقضي بإنشاء نمط جديد من المؤسسات المالية يسمى مؤسسة الإيداع والدفع الإلكتروني المتخصصة. ورغم أن هذه الكيانات ليست بنوكاً من الناحية الفنية، فإنها قادرة على قبول ودائع العملاء ومدفوعاتهم إلكترونياً من خلال الهواتف المحمولة أو في مواقع مرخصة مثل مكاتب البريد. ويشكل هذا الجهد جزءاً من استراتيجية وطنية أكبر أطلقت عام 2014 لتزويد 76% من البالغين بالقدرة على الوصول إلى الخدمات المالية وتزويد 56% منهم بحسابات ادخارية نشيطة بحلول نهاية عام 2016.

وفي منطقة المحيط الهادئ، اجتمعت فيجي، وبابوا غينيا الجديدة، وساموا، وجزر سليمان، وتيمور الشرقية، وتونجا، وفانواتو في جهد مشترك لإطلاق المبادرة الإقليمية لجزر المحيط الهادئ، والتي ستمكن كل دولة جزيرة في المحيط الهادئ، حتى تلك التي لا يوجد فيها بنك مركزي، من تقاسم المعرفة بشأن تحسين القدرة على الوصول إلى الخدمات المالية وتحسين جودتها وتيسير استخدامها في بيئة صعبة جغرافيا.

بدأت كل هذه الجهود بوصفها مبادرة تقودها الدولة، وكانت وليدة تحديات بعينها، وتم تصميمها لتلبية احتياجات محددة لسكان محليين، ولكن الخبرة المتراكمة أصل لا يقدر بثمن، ومع تقاسم الدروس وتزود الآخرين بالإلهام بفعل النجاحات الواضحة، أصبح التأثير هائلا، مع إظهار حتى الدول الأصغر حجماً لقدرتها على تقديم إسهامات كبيرة.

من ناحية أخرى، ومع تغيير البنوك المركزية للكيفية التي تعمل بها، تستجيب بنوك التجزئة بابتكار أساليب جديدة لممارسة العمل التجاري، فقد سجل بنك الأسهم في كينيا نمواً هائلاً من خلال الاستهداف الصريح للمستبعدين ماليا؛ وفي غضون ست سنوات فقط توسع البنك من نصف مليون عميل إلى ما يقرب من ستة ملايين عميل. كما تحمل شركات الاتصالات أيضاً لواء ريادة الخدمات الجديدة. على سبيل المثال، تخدم شركة تيجو الآن أكثر من 556 مليون عميل في 14 دولة في أميركا اللاتينية وإفريقيا بتقديم منتجات مثل خدمة المدفوعات عبر الحدود باستخدام الأجهزة المحمولة والخدمات غير النقدية لوكلاء المبيعات. وكما هي الحال مع أي فترة من فترات التغيير الكبير، فليس من السهل أن نرى ما ينتظرنا في المستقبل، وكما لاحظ مؤخراً ستيفن كيهو، رئيس قسم الشمول المالي العالمي لدى شركة فيزا فإن "السنوات السبع الأخيرة لم تقدم أي إشارة أو دليل على الكيفية التي قد تكون عليها السنوات السبع المقبلة". بيد أن الأمر الواضح رغم ذلك هو أن الكثير من العمل لم يتم بعد، وأن الفرص تكاد تكون بلا حدود.

إن إخراج ملياري شخص من سكان العالم لا يتعاملون مع الخدمات المالية من الظل المصرفي إلى النظام المالي السائد يتطلب إقامة شراكات جديدة بين الهيئات التنظيمية، والقطاع الخاص، والهيئات الإقليمية غير الساعية إلى تحقيق الربح، والمنظمات الدولية. وقد تبدو هذه المهمة بالغة الصعوبة، ولكن إنجازها من شأنه أن يساعد في بناء مستقبل أكثر إشراقاً للجميع.

* ألفريد هاننغ ، المدير التنفيذي للتحالف من أجل الاحتواء المالي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»