في صباح بدا استثنائياً وغير متوقع، فوجئ العراقيون بصدور خطة إصلاح عن مكتب رئيس الحكومة حيدر العبادي، تتضمن خطوات غير مسبوقة، أهمها "ترشيق" حادّ في المناصب العليا وتقييد امتيازات المسؤولين، وإبعاد المواقع التنفيذية الحساسة عن المحاصصة واستبدالها بمبدأ الكفاءة، وبدء تحقيق مع الكبار بمبدأ "من أين لك هذا؟"، والنتيجة الأولى إقالة 6 من الساسة الكبار من مناصبهم فوراً، هم نواب رئيس الجمهورية، وبينهم نوري المالكي، ونواب رئيس الوزراء.

Ad

وكنتيجة أولية لهذا "الزلزال السياسي"، فإن التظاهرات التي كانت مناهضة للحكومة، تحولت شعاراتها فوراً إلى جانبها، في انقلاب دراماتيكي، مهّد له المرجع الديني الأعلى علي السيستاني حين طلب "إصلاحات سريعة وبلا حذر من أي عاقبة".

وقد بدا أن التظاهرات التي اندلعت منذ أسبوعين في 10 محافظات ذات غالبية شيعية، احتجاجاً على الفساد وعجز الحكومة، هي التي أجبرت الطبقة السياسية على الرضوخ لأول مرة بهذا المستوى، لكن الصالونات السياسية في بغداد، تعلم أن القلق لم يكن من التظاهرات نفسها، ففي كل صيف تكون هناك احتجاجات صاخبة يقوم بها ناشطون معظمهم يساريون وليبراليون، دون أن تحقق شيئاً.

غير أن الجديد هذه المرة، كان يتعلق بـ"ركوب موجة التظاهرات" من قبل الفصائل المسلحة التي تدين بالولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي، ضد حلفاء المرجع النجفي الأعلى علي السيستاني المبشر في العادة بسياسات تصالحية داخل العراق ومع محيطه العربي بشكل خاص. فالخلافات بين محور السيستاني المعتدل، ومحور خامنئي المتشدد، داخل العراق، راحت تتزايد منذ عمليات تكريت الربيع الماضي، وتصاعدت مع إلحاح الحكومة على ضرورة انضباط الفصائل، التي تريد أن تبقى مستقلة وذات نفوذ أعلى من الجيش، بمباركة الجنرال قاسم سليماني!

ولذلك ظلت الأوساط السياسية تناقش خطورة دخول الفصائل المسلحة على خط التظاهرات، وكان السيستاني مدركاً لخطورة الرسالة: طهران تريد دوراً سياسياً أكبر للشباب المقاتلين الراديكاليين، في حكومة حيدر العبادي.

وتتحدث المصادر عن اتصالات سريعة قام بها المرجع مع الحزبين الشيعيين الرئيسيين، المجلس الأعلى بزعامة عمار الحكيم، وتيار مقتدى الصدر، وجرى الاتفاق على دعم إعلان إصلاحي كبير يقوم به العبادي، لتحويل التظاهرات الغاضبة إلى تظاهرات داعمة للحكومة، لأن هذا هو السبيل الوحيد لمنع الفصائل المسلحة من ركوب غضب الشعب.

والصراع بين "شيعة خامنئي" و"شيعة السيستاني" ليس سراً في العراق، لكن هذه هي المرة الأولى التي تشهد لجوءاً إلى الشارع، وتظاهرات تهدد بحرق مباني الحكومة، أو حتى اقتحام المنطقة الخضراء، حيث مقر الرئاسات الثلاث، في "رسالة مصممة بعناية" يرسلها سليماني إلى مرجعية النجف وحلفائها الذين حاولوا تقييد نفوذ الإيرانيين في السياسة العراقية.

لكن القضية أكثر تعقيداً؛ فصحيح أن فريق الاعتدال الشيعي سدد هدفاً ذهبياً مفاجئاً، في مرمى الفصائل الموالية لخامنئي، إلا أن العبادي وحلفاءه والبرلمان أيضاً، في حرج كبير، فقد التزموا أمام جمهورهم بتعهد يصعب التراجع عنه، وفي نفس الوقت فإن تطبيق المبادئ الإصلاحية المذكورة يعني قواعد جديدة وكبيرة في العملية السياسية، وخرقاً للتوافق المعقد، وتنازلاً عن امتيازات كبيرة جداً.

والأخطر من هذا تطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟" الذي لن يمكن تطبيقه دون إثارة فضائح مالية من العيار الثقيل، ربما لرئيس الحكومة نفسه! أما ما يشغل الوسط السياسي الآن، فهو: ماذا سيكون رد الجنرال سليماني، على هذه الخطوة التي أعادت تعبئة الجمهور بقوة خلف شرعية الحكومة لغير صالح "شرعية المقاومة المسلحة" التي حاول بناءها كشرعية بديلة في العراق؟ كثيرون يتوقعون أن الفعل ورد الفعل يطلقان مواجهة ساخنة بين النجف وطهران، لن تهدأ حتى حين، وستترك أثراً على خارطة السياسة الشيعية في الشرق الأوسط.