جمال الغيطاني الذي دخل دنيا الأدب على سجادة سحرية تشكل نسيجها من خيوط وألوان عدة، أبدع رسمها وسردها حتى صار «الحكّاء المبهر، حارس الذاكرة» بملامحه الجنوبية، والذي يصعب وضعه في إطار ضيق، فهو لم يكن «الروائي» فقط، بل الصحافي والمفكر والسياسي والمثقف الكبير، عاشق الموسيقى والمغرم بالفن التشكيلي.

Ad

أكثر من 50 عملا هي حصيلة إبداع جمال الغيطاني، المولود في التاسع من مايو 1945 في مركز جهينة محافظة سوهاج، جاء بعدها إلى القاهرة القديمة، وبالتحديد في منطقة الجمالية، ليعيش فيها ما يقرب من ثلاثين عاماً، وتزوج عام 1975، وله من الأبناء محمد وماجدة.

في عام 1963 استطاع الغيطاني أن يعمل رساما في المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجي، حيث استمر في العمل مع المؤسسة إلى عام 1965، تم اعتقاله في أكتوبر 1966 على خلفيات سياسية، وأطلق سراحه في مارس 1967، حيث عمل سكرتيرا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي وذلك إلى عام 1969م.

في عام 1969، مرة أخرى استبدل الغيطاني عمله ليصبح مراسلا حربيا في جبهات القتال، وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم، وفي عام 1974 انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحافية، وبعد إحدى عشر عاما في 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيسا للقسم الأدبي بأخبار اليوم، وقام الغيطاني بتأسيس جريدة أخبار الأدب في عام 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير.

استطاع أن يعثر على شكله الخاص، ونبرته التي لا تشبه أحداً غيره، كل عمل له مغامرة مستقلة فيها ثوابت الغيطاني، وفيها متغيرات التجربة. كانت سيرته عبارة عن رحلة من التجريب الدائم.

بعد أيام قليلة من هزيمة 67 ذهب الغيطاني بقصة قصيرة كان قد انتهي منها لتوه «المقشرة»، ذهب بها إلى عبدالفتاح الجمل إحدى القامات الكبيرة للصحافة والثقافة وقتها، وكان مسؤولا عن تحرير ملحق المساء الثقافي، قرأ الجمل القصة مرتين، وبحسب ما يسرد «اعتلى مكتبه فرحاً»، وقال للغيطاني: «يا ابن الايه... انت فتحت سكة جديدة في القصة القصيرة».

السياق الزمني وقتها منح الغيطاني وكتاباته رونقا مختلفا، لما فيه من نزعات غاضبة كانت تعكس ما يغلي داخل النفوس عقب الهزيمة وقتها، وكان قد خرج من المعتقل السياسي قبل أشهر من 67، وأحكمت الرقابة حينئذ قبضتها الشديدة على كل منافذ الإبداع، ولكن القصة الغاضبة نشرها الجمل على الفور، وأخبر الرقيب يومها أن هذا الأديب الشاب وجد مخطوطاً تراثياً قديماً يكتب عنه. وفي الوقت الذي كان فيه كل الكتّاب يتجهون إلى الكتابة وفق نموذج غربي بحت، أجاد الغيطاني التفتيش عن «خصوصية» تبرزه وسط أبناء جيله.

رحلة الغيطاني الأدبية زاخرة بالمحطات المهمة، منذ البداية في مجموعته القصصية «حكاية شاب عاش ألف عام»، وحتى روايته «حكايات هائمة» التي صدرت منذ شهور، شكل «الهم السياسي» الأرضية المشتركة فيها، لا فكاك من اختفاء الذات من أجل قضية كبرى، محاولة تغيير العالم الذي لا يتغير، باستثناء شبه وحيد في «رواية التجليات» التي شهدت ظهورا خافتا للذات، لم يستطع الغيطاني إخفاءه وهو يكتب نصاً بديعاً في رثاء والده.

تلمس دوماً إلمام الغيطاني بقضايا كونية وزوايا فلسفية رفيعة، ما جعله يخرج من محدودية الرؤية إلى الأسئلة النوعية، حيث تحرر الغيطاني منذ البدايات من بديهيات الكتابة ودورها التقليدي بوصفها «رسالة» وانعكاسا بحتا للواقع، وهو ما ميز «حكايات هائمة» التي خرجت عن سطوة المفاهيم القديمة، فكانت الكتابة لديه أقرب إلى تأسيس «معنى فني»، يصعب تصنيفه تقليدياً، تراوحت بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية، الأسئلة فيها أسئلته الخاصة لا أسئلة الجماعة.

كما تحرر الغيطاني من عبودية الشكل الملزم، أو تباعية القالب المحد، لتخرج كتاباته حرة تتداعى فيها الذاكرة، سواء أكانت الحكايات لها ظل من الواقع أو من الخيال تماماً، وهكذا نقرأ عن مراجع داخل العمل ليس لها وجود، وشخصيات لم تولد بعد، نصوص فيها من الفلسفة ومن التصوف، ومن الشعر ومن الخيال.

حصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية، منها «جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980»، «جائزة سلطان بن علي العويس عام 1997»، «وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى»، «وسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس»، «جائزة لورباتليون» لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية عن روايته «التجليات»، مشاركة مع المترجم خالد عثمان في 19 نوفمبر 2005، «جائزة الدولة التقديرية (مصر) عام 2007، التي رشحته لها جامعة سوهاج».

طرح الغيطاني في لياليه «ألف ليلة وليلة»، أسئلة حول الوجود، والزمان، والموت، وكلها تصب في همّ رئيسي هو الذاكرة، والتي صارع الغيطاني حتى أنفاسه الأخيرة من أجل ألا تتلاشى، حارب غياب الوعي، المحو، إثبات أنه «موجود»، ولكن لم يمهله الموت، الذي يرفض عشاق الغيطاني وجمهوره الإقرار بأنه رضخ له، وأنه فقط نائم ليحلم حلماً طويلاً.