صداقة الحظ والشرف كان جليس عبدالناصر ونديمه لكن بشكل عصري

نشر في 09-11-2015
آخر تحديث 09-11-2015 | 00:01
تشغل علاقة الأستاذ محمد حسنين هيكل بكل من الرئيسين جمال عبدالناصر ثم أنور السادات، الفصل الأكبر والأبرز والأكثر إثارة في تجربة الجورنالجي، فخلال نحو ربع قرن كان هيكل عقل النظام المصري وقلمه الذي يعبر عن أفكاره ومواقفه، معطياً لنفسه مساحة للاختلاف والتعبير عن رأيه الشخصي، وفيما كان التوافق في الرؤى بين الأستاذ والزعيم كبيراً، فإن الصراع سرعان ما طبع علاقة هيكل بالسادات. لكنه ظل في جميع مراحل علاقته بالسلطة يكتب ما يعبر عن قناعاته الشخصية، فكانت مساحة الاتفاق كبيرة مع عبدالناصر للاتفاق في القناعات والرؤى ودور مصر في محيطها العربي.
كانت علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر واضحة، بسيطة، وغير مركبة، نشأت طبيعية بين زعيم يكرس كل يوم زعامته، وصحافي كفء يؤكد كل يوم مواهبه، بدأت وكل منهما في موقعه الطبيعي، وتطورت، وانتهت طبيعية، أما علاقته بالرئيس السادات، بدأت وهيكل صاحب فضل وهو اليد الأعلى، وصاحب السلطة لا يطيق أن يبقى إلى جانبه أحد من أصحاب الفضل عليه، ولا يرضى إلا أن يكون هو صاحب اليد العليا..

***

هناك نص كاشف عن رأي هيكل في طبيعة علاقته بكل من جمال عبدالناصر والسادات، والفروق بين العلاقتين والرجلين ودوره معهما. والنص منشور في مقدمة كتابه "أكتوبر، السلاح والسياسة" وفيه يعتبر هيكل نفسه "شاهداً" من جراء قربه من صناعة القرار في حالتي عبدالناصر والسادات، ويستدرك مؤكداً في ما يشبه التواضع، أن الوجود في أجواء صناعة القرار نوع من "المشاركة"، وهو باستدراكه يرتفع بموقفه من "المشاهدة" إلى "المشاركة"، ولو "عن طريق حركة التنفس التلقائي من نفس الهواء"، ثم إنه سوى بين حالته "شاهداً" مع جمال عبدالناصر وحالته "مشاركاً" مع أنور السادات.

ويبرر هيكل استمرار علاقته بالسادات فيقول: "وكان دور السادات أن يستكمل ما كان جمال عبدالناصر قد بدأه من محاولة لإصلاح هذا الشرخ، بتلافي الأخطاء في الداخل، ومواجهة الضغوط من الخارج".

كان هذا هو الطبيعي... وكان هو المنطقي... وربما كان هو الضروري... ولكن من قال: إن ذلك هو رأي أنور السادات في دوره؟، هل من الطبيعي أو من المنطقي أن يكون "رأينا" في الدور الذي يجب أن يقوم به أنور السادات، هو نفسه ما يجب أن يقوم به أنور السادات، بغض النظر عن رأي السادات نفسه في الدور الذي يجب أن يقوم به؟

كان هيكل قد شارك في صناعة شرعية السادات في أكتوبر سنة 1970، وأصبح مهندس تكريسها في مايو سنة 1971، ثم هو الذي صاغ أساس الشرعية الجديدة في أكتوبر سنة 1973، بعدما أطلق على السادات: "صاحب قرار أكتوبر العظيم"، ومع ذلك، لم يكن أمامه من خيار بعد أربعة أشهر، إلا أن يرضى بهيكل الجديد، هيكل الملتزم، أو أن يحمل عصاه ويرحل بعيداً... في الظل.

ويبقى سؤال آخر مشروع، وفي حاجة إلى إجابة: "لماذا صاحب هيكل السادات بعدما كان قد صاحب عبدالناصر، وما بينهما من خلاف واختلاف لا يخفى على أحد، حتى قبل أن يسقط القناع عنه؟".

بيقين فإن هيكل الذي صاحب السادات، وتحالف معه، واقترب منه حد الالتصاق لم يكن هو أفضل حالات هيكل المثقف، وقصتهما معاً هي "دراما" حقيقية، بدأت بتحالفهما المعلن بعد رحيل جمال عبدالناصر، وعملهما المشترك معاً طوال ما يزيد على ثلاث سنوات، وتطورت إلى خلافهما المعلن والمدوي في بدايات سنة 1974، ثم استقرت تحت عنوان "الاقتراب عن بعد"، واستمرت تلك المرحلة ثلاث سنوات أخرى حتى العام 1977، وبعدها هبت عواصف السادات تريد أن تقتلع هيكل من الذاكرة العامة، وتحاول النّيل من مصداقيته، وظل هيكل خلال تلك الفترة يتوق الزوابع، ولا يخشاها، حتى أقدم السادات على خطئه الدراماتيكي الأخير، فأمر بحبس هيكل مع الألوف التي امتلأت بهم ساحات السجون المصرية في عام 1981 فيما سمي حملة سبتمبر الشهيرة، فبعد أن سقطت "جماعة مايو" في أخطائها المتكررة، وبعد أن تمكن السادات من إزاحتهم من السلطة، بدأ التحالف بينه وبين السادات ينفك ليعاد تركيبه من جديد على أرضية مختلفة، أرضية الرئيس الممسك بيده كل خيوط القرار، لا الرئيس الذي ينازعه مرؤوسوه في كل صغيرة قبل أية كبيرة.

وبدا في لحظات أنهما مجبران على العلاقة التي اكتنفها عدم ثقة متبادل، وفيها عدم توافق، يدفع إليه خلاف في الطباع، واختلاف في درجات الثقافة، وتضارب في النظرة إلى الأمور.

هيكل في الأساس رجل منظم، وعقلية مرتبة، المقدمات ترتب عنده نتائج معروفة، عكس السادات على طول الخط، الذي كانت ثقافته سطحية، ثقافة فهارس، أو كما كان يحلو له أن يردد ثقافة "جامعة الحياة" كما أنه رجل ذو مزاج انقلابي، ولا ترتب المقدمات بالضرورة نتائجها المعروفة، أو المتوقعة، فقد كان رجل "الصدمات الكهربائية"، وكانت الدولة التي يعرفها هيكل هي ما رأها، وتعلمها، وعبر عنها في ظل جمال عبدالناصر، وربما في ظل الحكم الملكي، وهي في الحالتين، دولة لها رأس، ولها هيكل، وتنظيم، وأسس في التعامل مستقرة.

أما دولة السادات التي يريدها وتناسبه، فهي دولة "المصطبة"، وأما قراراته فهي قرارات "الهواء الطلق"، تحت شجرة السنديان، لا أوراق، ولا محاضر، ولا تسجيلات، عمدة يحكم المدينة، مكتبه هو مصطبته، والمصطبة هي موطن إلهامه، قروي رغم طول بقائه في المدينة، ليس تمسكاً بأخلاق القرية، كما كان يحلو له أن يصور نفسه، ولكنها طريقة تفكير، تفكير العقلية الزراعية.

يرفع البعض علاقة محمد حسنين هيكل بالرئيس جمال عبدالناصر من واقع "الشاهد" إلى موقع "المشارك"، ويخفض بها البعض من وضعية "الداعية" إلى موضع "التابع"، ومثل هؤلاء يحاولون أن يقدموا تفسيراً مقبولاً -على الأقل من وجهة نظرهم- لهذا القرب الذي يعترف به الجميع بين الرئيس والأستاذ، وراحوا يخمنون أسباباً مفهومة تجيب عن السؤال: لماذا قربه عبدالناصر منه طول الوقت؟

كان هيكل مؤهلاً لكي يقوم بأكثر من دور، فهو مثقف وشخصية عصرية، ويجوز القول ان هيكل كان جليس الرئيس ونديمه، ولكن بشكل عصري، وربما بطبيعة مختلفة تفرضها طبيعة الأشخاص، وبدور مختلف تفرضه وقائع العصر، ولاشك أن عبدالناصر وجد في هيكل الأسلوب الرائع، والبراعة في الصياغة، وقد كان فعلاً أبرع الكتاب وأجزلهم، وأكثرهم جاذبية، وكان صاحب لغة صحافية أدبية سائغة، وسهلة، وممتعة، يقرأها الجميع بشغف الحريص على أن يستزيد...

كفاءة هيكل، ووطنيته، وعروبته، كانت كلها جواز مروره إلى عقل وقلب عبدالناصر، ولاشك أن الحصول على ثقة رجل مثل جمال عبدالناصر، وفي الموقع الذي كان يملأه طوال حكمه، كان يحتاج إلى كفاءة شخصية، وذكاء سياسي من واحد مثل هيكل، وقد امتلكهما بامتياز.

توحد هيكل بالسلطة زمن جمال عبدالناصر، حتى أصبح اللسان البليغ في التعبير عن أفكار الزعيم، وأصبحت مقالاته مقروءة ومؤثرة، وأدى مهمته على خير وجه، وعبر عن أفكار الرئيس بصورة كان يقول عنها عبدالناصر: "هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله"... كانت أفكار عبدالناصر، وبصياغة هيكل... ذلك أن عبدالناصر كان رئيس دولة مثقفاً، وكان هيكل أكثر اقتناعاً بأفكار عبدالناصر فاحتواء سلطة عبدالناصر لهيكل كانت عن قناعة منه، والأستاذ كامل زهيري له كلمة مشهورة تقول إنه: "ليس بالضرورة أن يكون من يؤذن من خارج القلعة، أفضل ممن يؤذن من داخلها، وليس بالضرورة أن من هم داخل القلعة عملاء، وأن من هم خارجها ثوار".

***

وجد عبدالناصر في هيكل الكاتب القادر على أن يصوغ أفكاره ويفسرها، لم تكن الأفكار، هي أفكار هيكل راح عبدالناصر يحققها، كما قال أنيس منصور مرة، ولكنها كانت أفكار عبدالناصر راح هيكل يكتبها، ويصوغها الصياغة الملائمة، هي أفكار عبدالناصر بصياغة هيكل، لا ننكر دور "الصائغ"، ولكننا نكتفي له بهذه الحدود، لا يتعداها ادعاء، ولا يتنازل عنها تواضع.

يؤكد محمد فائق وزير الإعلام الأسبق أن هيكل بالنسبة لعبدالناصر كان معبراً جيداً عن أفكاره، ولذلك كان يطلعه على تفاصيل الصورة لكي يعبر عنها بشكل أفضل، ومن هنا سبب اطلاع هيكل على الأوراق، وحتى على ما يفكر فيه عبدالناصر، يقول: كنا نجلس قبل كتابة خطاب لعبدالناصر وأقول: إن المطلوب أن نركز على أننا من إفريقيا، ولم نأت من الخارج، وأننا أبناء قارة واحدة، وكان الحديث يجري بيني وبين عبدالناصر في حضور هيكل الذي يسجل نقاطاً فقط، ولم يكن يشارك في الحديث، ويخرج ساعتين ويرجع، ليقرأ علينا خطاباً جميلاً في صياغته، وأجمل إخراجاً للأفكار التي طلبنا التركيز عليها، فيقول: النيل يجري من هنا، ويعطي المسألة عمقاً تاريخياً، ونراجع الخطاب، نضيف، أو نحذف، ولكننا نجد أنه قد صاغه في أحسن صورة ممكنة.

***

شفيق الحوت المفكر الفلسطيني الكبير يقدم شهادة تؤكد المعنى نفسه، فيقول: "أول مرة هاجمت فيها محمد حسنين هيكل كانت أمام عبدالناصر، لم يكن هيكل حاضراً، ولم أكن أعرفه شخصياً حتى ذلك الوقت، وقلت لعبدالناصر: "سيادة الرئيس نريد أن نعرف إجابة سؤال يحيرنا: هل هيكل يمثلك؟، نحن برأينا أنه أميركاني، يقول الحوت وهو يضحك: "كنت شاباً ومتهوراً، فطرحت هذا السؤال، بهذه الطريقة، فسألني عبدالناصر: تقول "نحن برأينا" فمن أنتم؟، ثم أضاف: تقصد شلة "مطعم فيصل" (وهو مطعم لبناني يقع مقابل الجامعة الأميركية في رأس بيروت، يتجمع فيه مفكرون ومثقفون ومغتربو العرب)، وتابع عبدالناصر: "لاشك أن هيكل مستفيد من قربه مني وهو مطلع، ولكن ما يكتبه يمثله هو، وليس أنا، وسأقول لك الدليل على ذلك، دليلي على أن هيكل يعبر عن نفسه هو أنك مرة رددت عليه، وأنا قلت لهيكل: "شفيق معه حق".

يقول شفيق الحوت: قبل الانفصال مع سورية، كان هيكل كتب مقالاً عنوانه: "نحن وحدنا في المعركة"، فأنا رددت عليه في مجلة "الحوادث" في بيروت بعنوان "لا لستم وحدكم في المعركة"، يتابع الحوت فيقول: ثم سألني الرئيس عبدالناصر: على فكرة أنت بتعرف هيكل؟، فأجبته: لا، فقال: لماذا لا تتعارفان؟، الحق عليه، هو مقصر تجاهك، لأنك في مصر وضيفنا"، وفعلاً بعد يوم أو يومين، يرن جرس الهاتف في غرفتي، ويكون الأخ هيكل على الخط، ثم تعارف بعضنا على البعض، وبعد ذلك صارت لقاءاتي بالرئيس عبدالناصر تتم عبر محمد حسنين هيكل.

ولماذا نأتي بشهادة شفيق الحوت، هيكل نفسه يحكي إحدى تلك القصص في حوار له مع مفيد فوزي فيقول: "أذكر أني عدت من رحلة في أوروبا سنة 1964، وكتبت مقالات بعنوان "رحلة إلى شواطئ مجهولة"، وكتبت عن عدم الانحياز، فذهب سفير الهند وقابل الرئيس عبدالناصر، وقال له: "هل هناك تغيير في مفهومكم لعدم الانحياز؟"، قال له: لماذا؟، فقال السفير الهندي: "هيكل كتب مقالة يلمح فيها إلى هذا التغيير، وقال عبدالناصر: "والله؟... لم أقرأها".

قصة أخرى يحكيها جون بادو السفير الأميركي في القاهرة، والذي كان قريب الصلة من عبدالناصر، وكان من السفراء المفتونين بحب مصر وآثارها وتاريخها وحضارتها، والقصة لا تدل فقط على أن عبدالناصر لم يكن يوحي إلى هيكل بما يكتبه، بل انه كان يرى بعض ما يكتبه هيكل مجرد "كلام فاضي". ونبدأ رواية القصة من أولها، لأنها تعطينا أكثر من دلالة على علاقة عبدالناصر بهيكل.

عندما انتخب الرئيس الأميركي جون كينيدي أراد أن يحسن أداء سفارات بلده في أكثر من مكان في العالم، ورأى أن يجري تعيين سفراء يفهمون البلاد التي يمثلون الولايات المتحدة فيها، وعلى هذا الأساس قرر تسمية "جون بادو" سفيراً في القاهرة، وهو الذي كان عميداً سابقاً للجامعة الأميركية بالعاصمة المصرية التي ظل يعمل بها، ويعيش فيها مدة 35 سنة، وتتلمذ على يديه بعض المسؤولين المصريين في حكومة عبدالناصر أثناء دراستهم بالجامعة الأميركية، وكان من بين هؤلاء علي صبري وأخوه حسين ذو الفقار صبري.

وكان لإجادة "جون بادو" اللغة العربية، التي يتحدثها بطلاقة، دور كبير في تنمية صداقاته داخل مصر، طوال فترة وجوده بها، وزاد ذلك من تعرفه على الأحوال العامة في مصر، بعدما أصبح سفيراً بها لبلاده، وكانت أهم عواصم المنطقة تحت حكم الرئيس عبدالناصر.

اقترب "بادو" من عبدالناصر، الذي أصبح صديقه على حد وصف السفير الأميركي نفسه، وإلى الدرجة التي أغاظت السفير السوفياتي في القاهرة، ما جعله يثير المسألة مع الرئيس، وقد أفهمه عبدالناصر بدوره أن السفير الأميركي يعرف ويتقن اللغة العربية، التي لا يعرف السفير السوفياتي منها حرفاً واحداً، وقال له: إن معظم المقابلة مع السفير الأميركي تتطرق إلى "دردشات" عامة، وأنها لا تكون بالضرورة ذات طبيعة سياسية أو دبلوماسية.

وهكذا حاز السفير الأميركي ربما لأول مرة ولآخر مرة ما لم يحز عليه أي سفير غربي آخر وهو صداقة عبدالناصر الشخصية.

وفي كتابه "الشرق الأوسط يعود إلى الذاكرة" ذكر "جون بادو" هيكل في أكثر من موقع، وهو يؤكد أن هيكل كاتب بارع جداً، وله أسلوبه وحيويته، وأن هناك نكهة خاصة للكتابة العربية الجيدة، وفي رأي "جون بادو" فإن "هيكل لم يكن محبوباً من جانب الكثير من أعضاء حكومة الرئيس عبدالناصر"، وأرجع ذلك جزئياً إلى الغيرة بين رجال السلطة، ولكنه شدد من ناحية أخرى على أن هيكل كان يغالي أحياناً في التأكيد على علاقته بعبدالناصر، ويسعى إلى استغلالها، وهو ما كان باعثاً على سخط الآخرين... يقول بادو:

-"عندما قدمت إلى مصر، كان محمد حسنين هيكل في أوجه من جوانب متعددة، واستمر الأمر على هذا المنوال طوال الفترة التي كنت فيها هناك، فكل يوم جمعة يظهر مقاله في "الأهرام"، وكان موضوعاً للاهتمام في السفارة، حيث يجري تحليله، ويتم بعث رسالة إلى الولايات المتحدة بشأنه بصورة متكررة.

وفي رأيي أنه من الخطأ تصور هذا النوع من الربط بين ما يكتبه هيكل، وما إذا كان يمثل بحق تفكير حكومة ناصر، أو ناصر ذاته، وقد تحققت من ذلك أثناء اشتعال أزمة الصواريخ الكوبية، والتي حظيت باهتمام كبير في مصر، وكانت السفارة تقطع إجازتها يوم "الجمعة" لنعكف على قراءة مقالة "بصراحة"، ونرسل أهم ما فيها إلى الخارجية الأميركية، حيث نتوقع أن المقالة تعبر عن آراء عبدالناصر.

وحدث أن نشر هيكل مقالاً طويلاً يوم الجمعة آنذاك، مع تحليل مطول لأوجه التشابه بين أزمة الصواريخ الكوبية، وأزمة قناة السويس سنة 1956، وفي اليوم التالي لنشر المقال، سنحت لي الفرصة للقاء الرئيس ناصر، وسألني إذا كنت قرأت المقال، فقلت له: نعم لقد قرأته، وأراد ناصر أن يعرف رأيي فيه، وأجبت: "حسناً، لم يترك لديّ انطباعاً قوياً، ولم تبد لي أن هذه المقارنة حقيقية"، فقال وهو يبتسم: "أعتقد أنه كلام تافه أو سفاسف، وقد قلت هذا لهيكل، لا يوجد أي تشابه أو تماثل بين الحالة في كوبا، والحالة هنا بأية حال، يقول جون بادو: من ساعتها أخذت السفارة إجازتها يوم الجمعة.

كفاءة هيكل تفرض نفسها

يقول محمد فائق: هناك صحافيون أعطوا الفرصة نفسها التي أعطيت لهيكل، وكان من بين هؤلاء مصطفى أمين، ولكن انتهى به الحال إلى ما هو معروف، وأقول باطمئنان وعن ثقة "إن كفاءة هيكل هي التي فرضت نفسها، كفاءته أولاً ثم حسن تعبيره عن عبدالناصر، ولاشك أنه كان أكثر الذين أعطوا هذه الفرصة تميزاً، وكان أكثرهم إخلاصاً لعبدالناصر.

طبيعة جمال عبدالناصر الخاصة وموقعه كحاكم يدفعانه إلى عدم الاعتماد على علاقة وحيدة مع كاتب وصحافي، وحسب المقربين منه طوال فترة حكمه فإن عبدالناصر كان لا يستريح في أعماقه -على الأقل في البدايات- من أن يكون هيكل وحده هو القادر عن التعبير عن النظام، وحاول عبدالناصر حسب شهادات موثقة طوال 18 سنة أن يعطي الفرصة لكثيرين غير هيكل، لكنهم لم يقدموا أفضل ما لديهم، وكان من بين من حاول معهم عبدالناصر أسماء مثل أحمد بهاء الدين، وكمال الحناوي، وجلال الحمامصي، وحلمي سلام، ولكن هيكل وحده الذي ذهب إلى عبدالناصر بشروطه وظروفه، لا بمطامع خاصة لديه.

ليس كل ما يكتبه يعجب عبد الناصر

الذين يقولون إن مقالات محمد حسنين هيكل لم تكن إلا تعبيراً عن رأي جمال عبدالناصر شخصياً، أو هي بمنزلة مجس يتعرف من خلاله على حقيقة نبض المجتمع، وردود الفعل فيه، يسيئون إلى حقيقة العلاقة بين الرجلين، فلا هيكل يقبل لنفسه أن يكون في هذا الموقع، ولا نظن أنه كان يمكن أن يقبل على نفسه أن تنحدر به العلاقة إلى هذا الموضع، كما أن مثل هذا القول لا يدرك حقيقة الدور الذي كان هيكل يقوم به باقتدار إلى جوار الرئيس، وهو في كل الأحوال لا يتواضع إلى حد الأداة التي تكتب ما يملى عليها، أو التي تكتب ما يصلح لأن يكون مجساً لمعرفة نبض الناس.

والحقيقة التي عليها مئة إثبات أن عبدالناصر لم يكن يقرأ ما يكتبه هيكل، إلا كما يقرأه الآخرون... أكثر من ذلك أن بعض ما كان هيكل يكتبه لم يكن يعجب عبدالناصر، والوقائع أكثر من أن تحصى.

back to top