لنستعد وجهنا الحضاري
كل عام أعود فيه إلى الوطن أراه ملمحاً من وجهه الحضاري، وتتناقص فيه إنسانيته وتعدديته التي عاش بها وعليها. في كل عام يتغير الناس بسرعة كبيرة إلى ما هو أسوأ. تزداد حالات التناحر بين العاديين من الناس، وتقل درجات الاحترام بين مثقفيه، وتتصارع فيه نخبه، ويغيب عنه المفكر والمصلح، وتتغلب فيه المصالح على الإيثار. في كل عام أحس أنني أزور بلداً لم أعرفه من قبل. ولولا مجموعة صغيرة من الأصدقاء الأنقياء الذين يقاومون بكل شجاعة هذا التدهور الخطير لما تفاءلت بمستقبل يمكن أن تعود به الكويت إلى الكويت.الكويت ذلك البلد الذي كان يضم أبناءه وأبناء جيرانه العرب أصبح يضيق صدره بأبنائه، الذين يقتلون فيه أجمل ما فيه. لا يستطيع أن يحتمل رأياً ثقافياً مغايراً ومخالفاً ولا يحتمل نقداً، بلد الكتب التي كنا نختار منها مختلف المشارب والأفكار والاتجاهات أصبح لا يصمد أمام رواية أو ديوان شعر. كنا نقرأ بكل حرية كتب حسن البنا وكارل ماركس، ونقرأ كل رواية تترجم من الاتحاد السوفياتي ومن أميركا وفرنسا واليابان، ونتقبل صنع الله إبراهيم، وحنا مينا، وغسان كنفاني، ونتعايش مع اختلاف سميح ودرويش الشعري والسياسي، وأصبحنا نضيق بسطر في رواية وشطر في قصيدة، كأنها تهز أركان وعينا، وتقتل فينا ثبات مبادئنا.
تغيرنا كثيراً، وربما لا يشعر المواطن المقيم بهذا التغير، وربما ينكر عليّ نظرتي لهذا الوضع الثقافي المزري الذي نعيشه، ومعه الحق في ذلك، لأنه لا يشعر بهذا التغير مادام جزءاً منه ولا يستطيع أن ينظر إليه من الداخل. يذكرني ذلك بتجربة الضفدع في الماء الذي ترتفع حرارته تدريجياً، فلا يشعر بها ويتأقلم معها حتى تصل إلى درجة حرارة معينة يستكين فيها، ولكن إسقاطه مباشرة في نفس هذه الدرجة يجعله يقفز من الماء.الذين يصرخون اليوم من تردي الوضع، ورغم أنهم لم يشعروا به إلا بعد أن طال ثيابهم، لهم الحق في فتح بوابة الأسئلة الملحة، ليس على الوضع الرقابي المتزمت حالياً، لكن أيضاً على الوضع الثقافي في البلد. ومن يبحثون اليوم عن سبيل لرفع هذه الوصاية، ولا أقول الرقابة الإدارية على المنتج الثقافي عليهم أن يهتموا بما هو أبعد من ذلك. عليهم أن يهتموا بالوجه الثقافي الذي بدأ يفقد أهم ملامحه، الوجه الذي تنتابه عوامل التعرية والتجهيل وتكريس التافه مقابل الجيد. عليهم أن يثوروا، ليس لأن رواية لهم منعت هنا أو هناك، لكن حفاظاً على الإرث الثقافي الكبير الذي تركه جيل التنوير السابق.الصراع الفكري اليوم ليس نزوة مؤقتة لمنع رواية إنما محاولة جادة لإعادة الأمور إلى سابق عهدها على الأقل، إن لم نطمح إلى التطور الطبيعي الذي تمليه سنة العصر. ما نطمح إليه هو عودة كل مكونات ومقومات الحياة الثقافية ابتداء من المسرح المنتهب إلى المقالة اليومية. ما نطمح إليه هو التغير نحو صنع الإنسان الذي يرى إنسانيته في التعامل مع الآخر والتعاطي معه بمساواة حقيقية. ما نطمح إليه هو المطالبة بحرية فكر الآخر لنشعر بحريتنا، أما الاحتجاج اللحظي فسينتهي إلى شيء.