مرت الذكرى الـ14 على هجمات القاعدة على أميركا، تغيرت خلالها خريطة الشرق الأوسط، وتزلزلت ركائزها، دول مركزية تفككت، ونظم دكتاتورية سقطت، وجيوش وطنية تآكلت، واهتزت الأرض العربية وأخرجت من باطنها أخبث عناصرها المكبوتة: ميليشيات عقائدية ضارية انطلقت تعيث في أرض المنطقة فساداً وتخريباً وقتلاً وسبياً للنساء وتهجيراً للعائلات والطوائف الدينية والعرقية التي استوطنت المنطقة منذ العصور السحيقة.

Ad

نجح "القاعدة" في إدماء أنف المارد الأميركي وضرب رموز الشموخ الأميركي، هذا الزلزال الكارثي الذي أودى بحياة (3) آلاف إنسان، لم يستغرق إلا ساعتين، لكن تداعياته وارتداداته شملت العالم أجمع، تغير العالم خلالها كما لم يتغير قبل قرن، وكان نصيب منطقتنا من هذه التغييرات هو الأوفى، بحيث تغيرت أوضاع كثيرة في المنطقة بعد 11 سبتمبر، ما كان لها أن تتغير بهذه السرعة، لولا شيطان القاعدة الذي أوحى لزعيمها بغزو أميركا وضربها في رموز شخوصها وكبريائها.

ما كان للمارد الأميركي أن يتحرك من قمقمه، ليزلزل الأرض العربية، مغيراً سياسته التي استمر عليها دهراً من الحفاظ على استقرار الأوضاع إلى التدخل لتغيير الأوضاع التي أنتجت فكر "القاعدة"، لولا هجمات سبتمبر.

أمور كثيرة تغيرت في دنيا العرب خلال هذه السنوات الـ14 لكن شيئاً واحداً استعصى على التغيير، هو القناعة الثابتة لدى قطاع كبير من العرب والمسلمين بأن هجمات سبتمبر وراءها مؤامرة يهودية أو أميركية للكيد للإسلام واتخاذها ذريعة للحرب على الإسلام والمسلمين تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، وهذه القناعة الثابتة بالمؤامرة الأميركية أو الصهيونية لا تقتصر على القطاع الجماهيري، بل تتجاوزه إلى شخصيات دينية وسياسية وثقافية بارزة في الساحة، ورغم ظهور البيانات وتوالي الاعترافات من زعيم "القاعدة" الذي وصف المنفذين الـ19 بأنهم "طليعة من طلائع الإسلام"، وقد فتح الله عليهم فدمروا أميركا تدميراً، ودعا بأن يرزقهم الله تعالى "الفردوس الأعلى"، ومن قبله خالد شيخ محمد "العقل المدبر" ومن قبله متطرفو لندن الذين كانوا يحتفلون سنوياً بذكرى استشهاد العظماء الـ19 إلا أن هؤلاء المؤمنين بالتآمر لم يغيروا قناعاتهم بأن "القاعدة" بريء وأن العملية وراءها مؤامرة.

دعونا نتساءل: لماذا يميل قطاع كبير في الساحة إلى تصديق فكر المؤامرة؟

وما العوامل التي تعزز ترويج هذا الفكر وتصديقه؟

أولا: رسوخ ثقافة الكراهية في التركيبة المجتمعية تجاه الآخر الغربي المتفوق، إذ هو عدو متربص لا يريد خيراً بالمسلمين، ولا عمل له إلا التآمر عليهم طمعاً في ثرواتهم والتحكم في مقدراتهم.

ثانياً: النفسية الجمعية العربية والإسلامية، أميل إلى تبرئة الذات واتهام الآخر فذلك يريحها ويعفيها من مسؤولية التغيير، نظراً لغياب منهج "نقد الذات" في مجمل المنظومة الثقافية: تعليماً وإعلاماً وخطاباً ثقافياً ودينياً وتربوياً، مع أن الخطاب القرآني يحملنا المسؤولية "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ".

ثالثاً: "البرمجة الثقافية" التي يتبرمج بها الطفل العربي منذ التنشئة الأولى هي التي تشكل نظرتنا لأنفسنا وللآخرين، فطبقاً للمفكر السعودي إبراهيم البليهي "العقل يحتله الأسبق إليه"، والأسبق هنا إلى الطفل جملة من الموروثات السلبية تجاه الآخر.

رابعاً: الرواسب التاريخية لدور يهود المدينة في التآمر على المسلمين قديماً، وما تفعله إسرائيل، اليوم، من تآمر وعدوان صارخ، يرسخان فكر التآمر في النفسية العربية والمسلمة وأن اليهود مصدر الشرور.

خامساً: "التوظيف السياسي" لفكر التآمر لدى التيارين: القومي والإسلامي، فالقومي وظف فكرة التآمر الغربي بهدف كسب الرأي العام وشحنه بأيديولوجية مواجهة الغرب، ولتبرير الانقلابات العسكرية على الأنظمة الملكية، والإسلامي وظف الفكرة في اتهام "الأنظمة السياسية" ما بعد الملكية، كسبا للشعبية ووصولاً للسلطة، واليوم توظفها التنظيمات المسلحة لتثبيت دولتها وتبرير أعمالها العدوانية.

ختاماً: هذه هي أبرز العوامل التي تفسر كيف يحتل "الفكر التآمري" عقول السواد الأعظم ونفوسه في مجتمعاتنا، سواء فيما يتعلق بأحداث سبتمبر أو غيرها من الأحداث التي تقع في الساحة.

* كاتب قطري