عندما تتلاقى المصالح تُعقد التحالفات السياسية المُعبّرة عنها، فالأنظمة الاستبدادية تحتاج إلى من يُبرر "شرعيتها"، وإلى قوى "شعبية" لا تعترض على احتكار السلطة والثروة من قِبل القِلة، وتغض النظر عن الممارسات القمعية، وهي أمور وفرتها جماعات الإسلام السياسي، في مقابل فتح المجال لهم للتوسع، حيث تركزت أنشطتهم العامة في البداية على قضايا "الدعوة"، وذلك التزاما، بالذات بالنسبة إلى الإخوان، بتدرج المراحل الذي وضعه مؤسس الجماعة حسن البنا، من أجل كسب ثقة الناس، خصوصا فئة الشباب وتنظيمهم حزبيا، بجانب إشغالهم في أمور دينية بسيطة تلهيهم عن متابعة الشأن العام، وهو ما يُخفف الضغط الشعبي على الأنظمة لا سيما أن فئة الشباب تمثل غالبية مجتمعاتنا.
بداية التحالف السياسي الذي تغير معه شكل الدولة في عدد من دول المنطقة، وبرزت بشكل واضح مظاهر الدولة الدينية، كانت في أول سبعينيات القرن الماضي في مصر، (مركز القيادة العالمية لجماعة الإخوان)، نظرا لما لها من تأثير إقليمي كبير، إذ عقد الرئيس الأسبق السادات "الرئيس المؤمن"! تحالفه السياسي مع "الإخوان" في الوقت الذي أطلق فيه سياسته الاقتصادية النيوليبرالية المتوحشة تحت مُسمىّ "الانفتاح الاقتصادي"، (يتبنى "الإخوان" وتيارات الإسلام السياسي الأخرى اقتصاد السوق الحرة والنيوليبرالية، وأغلب قادتهم من كبار الرأسماليين)، والتي أدت إلى زيادة الفوارق الطبقية، والإفقار، والبطالة. المهم بالنسبة إلى تيارات الإسلام السياسي هو فتح المجال لهم للنشاط العام وتجنيد الشباب، في مقابل رفعهم راية "الجهاد" في أفغانستان لمحاربة "الكفار"، وذلك لمصلحة أميركا وبدعمها المباشر، وهو ما ترتب عليه فيما بعد عودة المتطرفين "الأفغان العرب".بعد اغتيال السادات من جماعات الإسلام السياسي توترت العلاقة بينهما، ثم تعرضوا، بالذات الإخوان، للمطاردة والسجن والتعذيب، ولكن هذا لم يمس "السلف" والجماعات المرتبطة بهم، أو مظاهر "تديين" الدولة، وفي مرحلة لاحقة تحسنت علاقة الإخوان السياسية مع مبارك، لذلك أيدوا توريث الحكم لابنه ثم رفضوا، في البداية، المشاركة في ثورة يناير 2011. أما محليا فقد تم حل مجلس الأمة وتعطيل الدستور عام 1976، ثم تحالف النظام مع "الإخوان" فبدأت مرحلة التراجع عن استكمال بناء الدولة المدنيّة الحديثة، التي وضع أسسها الدستور، لمصلحة مشروع حكم بمظاهر دولة دينية، وهو ما انعكس ليس على نوعية البرامج الإعلامية، والمناهج الدراسية، والتعاملات المصرفية فقط، بل أيضا على مظاهر الحياة العامة والسياسية.التحالف السياسي الجديد مع "الإخوان" ترتب عليه مشاركتهم في الحكومة عام 1976، وفتح أفرع "جمعية الإصلاح الاجتماعي" في المحافظات، وإنشاء لجان ومراكز تابعة لها تحت مسميات مختلفة، وهو الأمر الذي سهل عليهم حرية الحركة والنشاط العام، حيث قاموا بممارسة نشاطهم "الحزبي" في مساجد الدولة، وسيطروا بالتحالف مع "السلف" على أغلب الاتحادات الطلابية، والنقابات العمالية والجمعيات المهنية، فضلا عن تمثيلهم في مجلسي الأمة والبلدي.وفي الثمانينيات دخلت جماعة "السلف" طرفا في التحالف السياسي مع السلطة، (بعد فتوى عدم تحريم المشاركة في الانتخابات)، فتم منحهم "جمعية إحياء التراث"، ثم شاركوا في الحكومة وهو ما أتاح لهم المجال للتوسع وممارسة نشاطهم "الحزبي" في المساجد وغيرها. وفي مرحلة لاحقة تحالفت السلطة مع جماعات سياسية من الطائفة "الشيعية"، تم على أثره إعادة ترخيص "الجمعية الثقافية" الذي سبق إلغاؤه في الثمانينيات، وهكذا فقد سمحت السلطة خلال العقود الأربعة الماضية بتشكيل تنظيمات "أحزاب" سياسية دينية، تستخدم الدين للوصول إلى سلطة التشريع واتخاذ القرار، وهو ما يتعارض مع فكرة الدولة المدنية التي وضع أسسها الدستور.إن الحديث عن مواجهة التطرف الديني لا معنى له إن لم تجفف منابعه لا مصباته فقط، وهو ما يعني أن إصلاح البيئة الحاضنة للأفكار المنغلقة والمتخلفة التي تعبد الطريق لبروز تنظيمات دينية فاشية مثل "داعش"، لن يتحقق له النجاح بمجرد منع "داعية" متطرف، أو منع برنامج إعلامي معين، أو إدخال مادة دراسية في المناهج تحث على التسامح والمحبة، فذلك ليس سوى مُسكن مؤقت للتخفيف من حدة التطرف. إن أصل المشكلة هو التحالفات السياسية بين الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي والتي تم بموجبها التخلي عن أي مشروع جدّي لبناء دول مدنية ديمقراطية، واقتصاد منتج ومستقل، واستُبدل ذلك بمشاريع حُكم بغطاء ديني توفره تيارات الإسلام السياسي عوضا عن "الشرعية"، وبالطبع فإن مشاريع الحكم، التي تستخدم الدين، لها منظريها، وإعلامها، ومناهجها التعليمية، واقتصادها الريعي التابع، وسياساتها التي نعاني الآن نتائجها السيئة. على هذا الأساس، فإن مكافحة التطرف الديني تتطلب أولا توجيه سهام النقد مباشرة إلى الأنظمة العربية التي تحالفت مع الإسلام السياسي و"ديّنت" الدولة، وثانيا المطالبة بإصلاحات سياسية شاملة وجذرية من أجل بناء دول مدنيّة ديمقراطية حديثة تقوم على أساس سيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة الدستورية المتساوية، واحترام الدين باعتباره عقيدة مُقدّسة ينبغي ألا تلوثها تقلبات السياسة، فضلا عن إطلاق الحريات العامة ومن ضمنها حرية العمل السياسي القائم على أسس وبرامج مدنية ديمقراطية، حيث لا إقصاء لأي طرف سياسي بما في ذلك من له مرجعية دينية ما دام ملتزما بالمبادئ الدستورية العامة التي تؤكد مدنية الدولة.
مقالات
التطرف الديني لا ينشأ من فراغ (2-2)
06-07-2015