يُدعى نظام روسيا السياسي غالباً "نظام سلطة عمودياً" مع تركز السلطة بيد رجل واحد في القمة، لذلك يحمل خطاب بوتين الرئاسي السنوي ثقلاً كبيراً. يكتب أندري كولسنيكوف من معهد كارنيغي في موسكو (مؤسسة فكرية) أن هذا الخطاب "لا يشكل محادثة مع الناس"، بل يمثل إرشادات عقائدية مشفرة موجهة إلى النخبة، لكن خطاب هذه السنة بدا هادئاً ومختلفاً عن مسار المواجهة الذي رسمه بوتين منذ عودته إلى سدة الرئاسة عام 2012.

Ad

طبيعي أن يبدأ بوتين بالتحدث عن خطر الإرهاب، إذ ألمح كالمعتاد إلى أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية "اتخاذ قرار الإطاحة بالأنظمة غير المرغوب فيها (في الشرق الأوسط)، فارضة بعنف قواعدها"، ما أدى بالتالي إلى الحرب الأهلية، كذلك صب جام غضبه على تركيا، عدو روسيا الجديد منذ أسقطت الطائرة الحربية الروسية قبل نحو أسبوعين، فهدد باتخاذ تدابير إضافية إلى جانب العقوبات التجارية.

لكن الجزء الأكبر من الخطاب بدا أكثر هدوءاً، مركزاً على الاقتصاد، والحاجة إلى الاستعداد لانخفاض أسعار النفط، دون تطرق إلى أوكرانيا، أما القرم، فذكرها بشكل عابر، كذلك غابت معاداة الولايات المتحدة عن هذا الخطاب بشكل كامل، وإن كان هذا لا يجعل أحداً يعتقد أن الكرملين غير موقفه في معاداته الغرب.

ربما كان بوتين يحاول مجاراة الميل السائد، إذ أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا المستقل أن 75% من الروس يؤيدون تحسين العلاقات مع الغرب، كما أن الاقتصاد الروسي بلغ مرحلة حرجة، لذا ألمح بوضوح: "إن لم نسعَ للتغيير، فسينفد احتياطنا وسيقارب معدل النمو الصفر".

بدأت المشاكل الاقتصادية تمس مجموعات موالية للقيادة الروسية، فتتنقل هناك ببطء تظاهرة احتجاج وطنية ينظمها قادة الشاحنات منذ منتصف نوفمبر، إذ يعارض السائقون نظام ضريبة جديداً فُرض على الحمولات الكبيرة على الطرقات الفدرالية، كذلك يرفضون واقع أن الرجل الذي يتقاضى أجراً لإدارة هذا النظام ليس سوى إيغور روتنبيرغ، ابن أركادي روتنبيرغ، أحد أقدم أنصار بوتين، فترد على إحدى اللافتات المعلقة على شاحنة في جنوب روسيا عبارة "روتنبيرغ أسوأ من داعش".

لاشك أن لهذه المواجهة بين المقاولين المستقلين ونظام المحسوبية في روسيا بقيادة بوتين مدلولات سياسية قوية، ومن المستبعد أن يحقق السائقون مرادهم، إلا أن تظاهرتهم تشكل رمزاً يعكس المشاكل التي تعتمل تحت سطح شعبية بوتين المرتفعة، فقد خُفضت موازنة الدولة لعام 2016 بنحو 8% مقارنة بالسنة السابقة، أما المداخيل المتاحة، فبدأت تنخفض للمرة الأولى في عهد بوتين.

والأكثر خطورة الاتهامات التي أطلقها السياسي المعارض ألكسي نافالني ومنظمة محاربة الفساد التي يرأسها قبل أيام بشأن عائلة المدعي العام في روسيا يوري شايكا، فقد نشرت المنظمة فيلماً مدته 44 دقيقة على شبكة الإنترنت يبدأ بصور الحفل الافتتاحي في منتجع فخم في اليونان، وقد تضمن الحفل ألعاباً نارية وعروضاً من نجوم شعبيين روس، ثم ادعى الفيلم أن ابن شايكا، أرتم، يملك جزءاً من هذا الفندق، الذي يشكل إحدى الملكيات التجارية التي يزعم أن ابناء شايكا كدسوها من خلال صفقات الخصخصة والعطاءات الحكومية.

ينكر شايكا كل هذه الأخبار ويتهم نافالني بتنفيذ عملية تشويه سمعة بطلب من مجهولين دفعوا له المال، لذلك يخطط لمقاضاته بتهمة التشهير، في المقابل، يرد نافالني بأنه سيقاضي شايكا بتهمة الافتراء، لكن دميتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، رفض التعليق على فيلم نافالني قبل أيام، مكتفياً بالقول إن الكرملين منهمك بالتحضير لخطاب بوتين ولم يشاهده.

قد يشكل هذا الرد البارد إشارة إلى توتر بين أعضاء النخبة الحاكمة، ولكن من المستبعد أن يتخلى بوتين عن شايكا، فضلاً عن أنه من المستحيل أن يشن حرباً فعلية ضد الفساد، لأن هذا يعني أن عليه أن يقوض نظام السلطة العمودي كله، وللسبب عينه، يعتبر بوتين أنه من المستحيل الإصغاء إلى نصيحة مَن يطالبون باقتصاد أكثر تحرراً، والحد من البيروقراطية، والترويج للمنافسة.

وبدلاً من ذلك، اختار الرئيس المزيد من وسائل الإلهاء، فيعشق الروس رئيسهم لأنه أعاد روسيا إلى مكانتها "كقوة عظمى"، وعند سؤالهم عما يجعل روسيا عظيمة، يذكرون الثروة والقوة العسكرية، لذلك كلما تراجعت الأولى في الداخل، كان عليه أن يضاعف تأكيد الثانية في الخارج.