إن التنافس بين القوى العظمى قد أصبح حقيقة اليوم، فالولايات المتحدة الأميركية تتنافس الآن مع روسيا التي تنشط بشكل متزايد والصين الصاعدة، فالشرق الأوسط وجنوب بحر الصين وأوكرانيا هي فقط ثلاثة مسارح يتفاعل فيها هذا الواقع الجديد.

Ad

لقد تولد لدي انطباع بعد قراءة كتاب وزير الدفاع الأميركي السابق ستروب تالبوت "التجربة الكبرى" بأن بذور بعض العوامل التي تلعب دورا هذه الأيام قد زرعت قبل وقت طويل، إذ يصف الكتاب محادثة جرت في ديسمبر من سنة 2000 بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس المنتخب جورج بوش الابن، حيث ذكر كلنتون أنه على أساس حملة بوش الانتخابية فإن القضايا الأمنية الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى بوش كانت صدام حسين، وبناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ على نطاق واسع، ولقد أجاب بوش قائلا: "هذا صحيح تماما".

لقد تم تأجيل النظر في تلك القضايا عندما وقعت المأساة بشكل غير متوقع، والتي جاءت على شكل الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر 2001، ولقد أدت تلك الهجمات إلى فترة من التعاون الدولي تميزت بالتضامن ضد الإرهاب، فقد كانت فترة شعرنا جميعا بأننا أميركيون، ووصف بوش بوتين آنذاك بأنه "واضح تماما وجدير بالثقة". لقد بدأت الأمور تتغير في ديسمبر من العام نفسه عندما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها ستنسحب من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية من أجل بناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ لحماية نفسها من إيران التي يمكن أن تصبح نووية، وإن هذا الأمر لم يمر مرور الكرام في روسيا.

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تفهم في ذلك الوقت أن عالما متعدد الأقطاب قد بدأ بالظهور، وهو عالم سيجعل من الصعوبة بمكان الاستمرار في السياسات التي ناقشها بوش وكلنتون سنة 2000 بدون عواقب، إذ ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك بصراحة خلال كلمته في مؤتمر أمن ميونخ سنة 2007، حيث رفض بشدة التدخل في العراق وخاصة الخطط الأميركية لتوسعة الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ لتشمل أوروبا، ووصف ذلك بأنه عمل عدواني ضد روسيا وخرق للأمن المشترك لأوروبا.

وفي صيف سنة 2008 أبرزت ثلاثة أحداث العالم المتعدد الأقطاب بشكل واضح، فالصين أذهلت العالم كمستضيفة للألعاب الأولمبية مما عزز من وضعها كلاعب دولي مهم، والعمل العسكري الروسي في جورجيا– في خضم تلك الألعاب- أظهر للعالم أن مفهوم مناطق النفوذ لا يزال حيا في الكرملين، كما أن انهيار بنك الاستثمار الأميركي ليمان براذرز في الشهر الذي يليه، والذي أدى إلى حدوث أزمة مالية عالمية لم يستعد الاقتصاد العالمي عافيته منها بشكل كامل حتى الآن، بعد أظهر نقاط الضعف لدى الاقتصادات المتقدمة، علما أن تلك الأزمة لم تؤثر على الصين بشكل عام.

يبدو أن الصين وبهذا الحس الجديد بوضعها كدولة عظمى قد بدأت تغير من مفهوم "الصعود السلمي"، الذي أطلقه قادتها منذ حقبة دينغ كيساوبينغ، حيث أصبحت تتبنى سياسة خارجية تنطوي على عرض للعضلات ضمن جوارها. لقد بدأت الصين على أساس حقوقها التاريخية المزعومة بتوسيع مطالباتها الإقليمية إلى جانب حضورها العسكري في بحور الصين الجنوبية والشرقية، وفي سنة 2013 وصلت التوترات إلى ذروتها عندما أعلنت الصين بشكل أحادي إنشاء منطقة تعريف للدفاع الجوي تغطي مناطق تطالب بها في بحر الصين الشرقي لكنها تحت السيطرة اليابانية.

إن العديد من البلدان، التي لديها معاهدات أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر القوة البحرية الرئيسة في منطقة المحيط الهادئ منذ الحرب العالمية الثانية، تأثرت بأفعال الصين في بحور الصين الجنوبية والشرقية، وعليه اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية إعلان الصين منطقة تعريف الدفاع الجوي استفزازا، وأن قيامها بتوسيع مطالبها المتعلقة بالسيادة يعني أنها تقوم عمليا بتوسيع مطالبها المتعلقة بالنفوذ. لقد أخذت المؤسسات الدولية بعض الوقت لمواكبة النظام العالمي المتغير، إذ تمكنت قمة مجموعة العشرين الكبار في سيول سنة 2010 من التوصل لاتفاقية لزيادة حصص الدول الناشئة في صندوق النقد الدولي بحلول سنة 2014 ولكن الكونغرس الأميركي رفض المصادقة على التغييرات، وعليه لم تحقق الاتفاقية أية نتائج.

وعندئذ قامت الصين بتولي زمام الأمور بنفسها، فكانت في طليعة الدول التي أنشأت البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية حين بدأت المؤسسات الدولية على وشك التفكك، إلى أن قررت الدول الأوروبية الانضمام إلى البنك للاستثمار في البنية التحتية، وعلى الرغم من مقاومة الولايات المتحدة الأميركية في البداية واستمرار رفضها الانضمام فإنها أوضحت أسباب قرارها في محادثة لاحقة بين الرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الأميركي باراك أوباما.

وكانت روسيا تكشف في الوقت نفسه عن طموحاتها الخارجية المتجددة في أوكرانيا، حيث قام بوتين بخرق قانون هلسنكي النهائي في ربيع سنة 2014 مما يعني أنه وضع السياسة الخارجية الروسية في الاتجاه المعاكس للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وأعاد التأكيد على هذا الموقف في سبتمبر عندما قرر التدخل في الصراع السوري وتأمين دور لروسيا في أية محاولة لإحلال السلام في هذا البلد.

إن العالم اليوم مختلف تماما عما كان يتوقعه البعض في نهاية القرن المنصرم، وذلك بعد عقد من انهيار جدار برلين، ومن الناحية التاريخية فإن 15 سنة قد تبدو طويلة أو قصيرة طبقا لشدة التغيير، وخلال هذه السنوات المنصرمة من ازدياد التنافس بين القوى العظمى، وتجدد انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط- بما في ذلك الربيع العربي وصعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية الوحشي والحروب بالوكالة بين السنّة والشيعة والمعاناة الإنسانية التي لا توصف– كان التغيير كبيراً للغاية على أقل تقدير.

لكن المواجهة لا تمثل كامل القصة، فقد اتُخذت خطوات واعدة في مجالين حيويين هما: عدم الانتشار النووي من خلال الاتفاقية النووية مع إيران، ومكافحة تغير المناخ المتمثل بالاستعدادات المشجعة لقمة المناخ الحالية في باريس.

لو كان هناك درس واحد يمكن تعلمه مما تقدم فهو أن الدبلوماسية المتماسكة التي يتم تنفيذها بشكل جيد لا تزال لديها قوة استثنائية لحل الصراعات، علما أن هذه الدبلوماسية لا تزال أفضل أداة لتحقيق هذه النتائج التعاونية التي يُعاق تحقيقها بشكل فعال بسبب المواجهة.

* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للسياسات الخارجية والأمن، عمل سابقا أمينا عاما للناتو ووزيرا لخارجية إسبانيا، وهو حاليا رئيس لمركز إيساد للاقتصاد والجيوسياسية، وزميل مميز في معهد بروكنغز.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»