شفاء «فاكياب رنبوشيه» العجيب

نشر في 19-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 19-09-2015 | 00:01
No Image Caption
معجزة؟ هذه في مطلق الأحوال حالة فريدة من نوعها: يدّعي لاما تبتي أنه شُفي بواسطة التأمل من مرض جزم الأطباء أن من المستحيل الشفاء منه بالأدوية... لكن قصته التي نُشرت أخيراً تقلب كل معارفنا حول قدرة الحالة النفسية العلاجية.
في نوفمبر 2003، راح فاكياب رنبوشيه يتأمل من النافذة برق العاصفة وهو ينير سماء نيويورك. يكتب هذا اللاما التبتي في الكتاب الذي نشره عن قصة حياته La méditation m’a sauvé (التأمل أنقذني): {أغمضت عيني وتنفست بعمق في محاولـة مني للتحكم في الألم. كنت أعاني  ألماً مبرحاً في الظهر، وأشعر من حين إلى آخر بتمزق مبرح في ساقي اليمنى المصابة بغرغرينا في مرحلة متقدمة. تعجز الضمادات عن احتواء رائحة اللحم المهترئ التي لا تُحتمل}.

أكد أطباء {بيلفو}، حيث نُقل رنبوشيه ضمن إطار البرنامج الأميركي لمساعدة الناجين من التعذيب، ألا أمل له بالنجاح إلا إذا خضع لعملية بتر فوق الركبة. فقد بدأت عظام، غضروف، وأنسجة ساقه اليمنى تتفكك. بالإضافة إلى ذلك، كان التهاب الغشاء المحيط بالرئة وحالة من السل العظمي ينهكان جسمه. وما كانت المضادات الحيوية أو الأدوية الأخرى تعود عليه بأي فائدة.

وصل إلى هذه الحالة المذرية نتيجة التعذيب على يد الشرطة الصينية، التي أساءت معاملته طوال أشهر خلال عام 1999. جريمته: انتماؤه إلى أنصار الدلاي لاما. في السابعة والثلاثين من عمره، كان رنبوشيه خصص حياته منذ زمن طويل للتأمل ويوغا الطاقة الداخلية. فخلال أكثر من عشرين سنة، درس كتابات بوذية تحمل تعليقات أجيال من ممارسي اليوغا. ومن الضروري الإشارة في هذا الصدد إلى أن رنبوشيه ليس اسم عائلة. تعني هذه الكلمة {دقيق}. ويتوخى اللاما الدقة بالتأكيد، وذلك بحثاً عن خير البشرية جمعاء، لأنهم بسعيهم هذا يهدفون إلى تحرير الإنسان من الألم.

ارتباط بالطبيعة

بالعودة إلى الوراء، نلاحظ أن قصة هذا الرجل لا تحمل أي تفاهات. ولد رنبوشيه عام 1966 في بلاد الثلج في التبت، وهو متحدر من سلالة الخيالة الغامضة الكامبا التي هزمت سلالة تانغ الصينية في القرن العاشر. ترعرع رنبوشيه في الطبيعة وسط الخيول وقطعان الياك. وعندما نرافقه في قصته هذه الصفحة تلو الأخرى نكتشف عالماً تتحول فيه الأحلام، السحب، والحيوانات البرية والطائرة إلى حملة رسائل ورؤى للإنسان. في هذا العالم، تتحول الآلهة إلى عصافير لترشد الإنسان. منذ نعومة أظفاره، تعلّم رنبوشيه أن عليه الإصغاء إلى أناشيدها بغية معرفة الطريق التي عليه أن يسلكها (هذا مختلف كل الاختلاف عن رؤية العصر الجديد العملية والجميلة التي يكونها الغرب عن البوذية).

عرف رنبوشيه أنه يود أن يصبح راهباً، حين كان في الثالثة عشرة من عمره. كان ذات يوم ممدداً على العشب يحلم. فارتسم أمامه طيف. كائن من ضوء ينظر إليه: كان بوذا المحب الحامي الذي طلب منه أن يتبعه. فهل أراد ذلك؟ أجاب الصبي النائم «نعم»، واستيقظ فجأة. فطار سكان القرية فرحاً. وهكذا أعرب عن رغبته بتقديم حياته إلى كل الكائنات الحية، حسبما يكتب. وفي غضون لحظات تبدل هذا المراهق. روى هذه الرؤية إلى جدته التي علمته بعد ذلك طريق بوذا وكبار القديسين التبتيين. لكن هذا التعليم لا يخلو من المخاطر. ففي التبت المحتلة، تشكل العودة إلى دين الأسلاف عمل مقاومة وخطوة سياسية.

قدره المنفى

يشكل السفر إلى الولايات المتحدة بالنسبة إلى رنبوشيه مشاركة في القدر العام لكل اللاما. فمنذ ضمت الصين التبت إلى أراضيها، هرب كبار المعلمين إلى المنفى بغية ضمان الاستمرارية. قصد معظمهم الهند، إلا أن كثيرين قرروا الإقامة في الولايات المتحدة، بلد الهنود الحمر. ويبدو أن هذه إحدى النبوءات القديمة التي جرى التفوه بها منذ زمن: «عندما تطير العصافير الحديدية وتركض الخيول الحديدية على عجلات، يُطرد الدارما من التبت. ويتوزع التبتيون كالنمل في مختلف أنحاء العالم. وينتقل الدارما إلى أرض الرجال الحمر».

خلال إقامته في الولايات المتحدة، حظي رنبوشيه بفرصة الخضوع لعلاج نفسي. وللمرة الأولى في حياته، تحدث عن وضعه كلاجئ وما تعرض له من ضرب وعنف. وهكذا استطاع في النهاية التحدث عن الألم الذي شعر به عندما سلبه معذبوه إنسانيته. يكتب: «تتوقف عن أن تكون إنساناً وتتحول إلى مجرد شيء محتقر: جسم مخلع، مقطع الأطراف، ومذلول بسبب المعاملة السيئة. ما السبيل إلى توضيح كل ذلك إلى كائنات لم يُمس تكاملهم الفيزيولوجي والأخلاقي؟». لكن رنبوشيه لا يحقد على معذبيه. فقد راكموا كمية كبيرة من «الكارما» السيئة، حتى إنهم باتوا يعانون هم أيضاً. وهكذا يكونون ضحايا مثله تماماً. يذكر رنبوشيه: «يقبع العدو الحقيقي في داخلنا: إنه الكره، الغضب، الرغبة في الامتلاك، والميل إلى الانتقام».

في السادس عشر من نوفمبر عام 2003، بعد ستة أشهر من العلاج، بلغت حالته الحضيض. ما عاد الطب الغربي قادراً على معالجته. نتيجة لذلك، اعتبر الأطباء أن بتر الساق المريضة الحل الوحيد. رغم ذلك، لم يستسلم مطلقاً. فعملية البتر هذه ستشكل عقبة أمام تدفق دورة الطاقة في الجسم. نتيجة لذلك، طلب رنبوشيه مشورة الدالاي لاما. وجاءه الجواب: «لمَ تبحث خارج نفسك؟ تحمل في داخلك الحكمة التي تشفي. وعندما تبلغ الشفاء، تعلم العالم كيفية تحقيق ذلك». فنوّرت هذه الإجابة بصيرة رنبوشيه.

حماية سلالته

في الأول من ديسمبر عام 2003، خرج من المستشفى، مخالفاً توصيات الأطباء، وسكن في شقة في بروكلين، حولها إلى مغارة للتأمل. يروي: «اعتدت أن أطلب حماية الصقر. لكني في ذلك اليوم، طلبت حماية سلالتي. فلم تتردد روحهم في التجلي، ورأيت أمامي حالة من الحماية الخيرة المشعة». شكلت هذه بداية حالة من العزلة دامت ثلاث سنوات صب رنبوشيه خلالها كل اهتمامه على التأمل وممارسة تمارين اليوغا بغية تنشيط طاقة الجسم أو الأجسام بالأحرى، لأن وفق هذا التقليد، ثمة أجسام عدة. ففي الجسم المادي المرئي جسم آخر غير مرئي «واعٍ ومتصل بالروح عند مستويات عميقة».

يرتكز التأمل على الاتصال بهذين الجسمين. كذلك مارس هذا اللاما تمارين قاسية من التصوّر، متخيلاً جسمه مثل مغلف فارغ من دون لحم أو عظم، فضلاً عن تمارين التنفس بغية التخلص من السموم وطردها من الجسم. لم تقتصر هذه العملية على ردة فعل بالمعنى الفيزيولجي الحسي، بل شملت ممارسة من الضروري أن تحرك 21600 نفساً، التي تشكل قوى الحياة وفق البوذية.

خلال عزلته هذه، اتبع رنبوشيه برنامجاً علاجياً محدداً: اليوغا، التأمل، والتصوّر، بالإضافة إلى الصلاة، التقدمات، الأناشيد، واستعمال حجارة شفائية. فقد استدعى آلهة لها جسم إنسان إنما رأس حصان أو ثور بغية مواجهة المرض، بالإضافة إلى «تارا فيرتي»، أم كل إنسان.

أما أطباقه، فكانت بسيطة ترتكز على دقيق الشعير، الجبنة، والشاي. كان ينهض نحو الخامسة صباحاً وينام بعد منتصف الليل. عاش حياة تنسك وزهد، إلا أن هدفه الأول كان الاتصال بعالم الأسلاف وبالقوى النابعة منه. وهكذا جمع برنامجه ثلاثة مجالات: ديني، فلسفي، وعلوم داخلية، بالإضافة إلى التأمل واليوغا. لم يحاول رنبوشيه ابتكار أي علاج جديد، بل اتبع الطرق التي تعلمها منذ نعومة أطفاره. وقد خصص منذ لجوئه إلى «مغارة التأمل» هذه أكثر من 80 ألف ساعة لهذه الممارسات.

تجاهله الأطباء

بين عامي 2008 و2009، عاد إلى المشي بشكل طبيعي. وفي عام 2013، لم يبقَ من مرضه سوى ندوب صغيرة. كذلك، تشكل عظم الكاحل مجدداً. لكن هذا اللاما يسأل اليوم: «لمَ يستخف الأطباء عينهم، الذين أرادوا بتر ساقي، بشفائي هذا؟ يستطيعون رؤية جروحي التي التأمت. كذلك نجحت تدريجاً في السير من دون أي عرج. رغم ذلك، يفضلون تجاهل هذا التطور. ألأنه يعارض ما شخصوه؟ أم لأنني لجأت إلى قدرات الروح على الشفاء؟».

صنّف أطباء آخرون هذه الحالة في خانة عمليات الشفاء المفاجئة غير المبررة لأن أهم تقنيات التصوير والتشخيص عجزت عن توضيح كيف تمت عملية الشفاء هذه. الروح مختلفة عن العقل، فكيف يمكننا أن نوضح عملية الشفاء هذه؟ من خلال تأثير التأمل، كما يصر رنبوشيه؟ من خلال قوة التعاطف التي يستخدمها عدد من اللاما كقوة عظمى؟ من خلال الأرواح الشافية للبوذا الحامي؟ مَن يدري؟

back to top