كيف تُقبل ريح الفلسفة على رأس الموسيقي؟ هناك عيناتٌ نادرة من الفلاسفة الذين منحوا الموسيقيين هذه الفرصة. أبرزُ من فيهم هو شوﭙنهاور ونيتشه الألمانيان. وإذا انفردت رياحُ شوﭙنهاور بالموسيقي ﭬاﮔنر، فإن رياح نيتشه اتسعت لأكثر من موسيقي. كان من أبرزهم: ريتشارد شتراوس في عمله "هكذا تكلم زرادشت"، ومالر في سيمفونيته الثالثة، وديليوس في "قداس للحياة". وعادة ما يُضاف شوينبيرﮒ، ولكن لا لعمل محدد، بل لتوجه رادكالي، يشبه توجّه نيتشه، في تحطيم نظام الهارموني الذي امتد ثمانية قرون قبله. إنه يُذكر بمجنون نيتشه في كتابه "العلم الفرِح"، حينما يتساءل: "من منحنا إسفنجة لمسح معالم الأفق؟ ما الذي سنفعل حين نُطلق هذه الأرض من إسار الشمس؟"
عملُ شتراوس المستوحى من "هكذا تكلم زرادشت" ينتسب إلى فن "القصيدة السيمفونية"، التي تعتمد "برنامجاً" حكائياً، لا "شكل" السوناتا المجرد، كما هو شأن الفن السيمفوني. وضعه عام 1896، ووزعه، شأنه شأن كتاب نيتشه، على تسعة فصول، تمتد قرابة نصف ساعة. ويعترفُ شتراوس بأنه لم يسعَ إلى تأليف عمل موسيقي فلسفي، ولكنه استجاب إلى الطاقة الغنائية في نص نيتشه الأدبي. وهذا الأمر يشمل الموسيقيين الآخرين، الذين جئنا على ذكرهم. ولقد اكتسب عمل شتراوس سمعةً واسعةً على أثر توظيفه من قِبل المخرج كوبريك في فيلمه الشهير "2001، أوديسة الفضاء". السيمفونيةُ الثالثة، لمالر، 1896، استجابة للنص الشعري أيضاً، ولقد استخدم المؤلفُ قصيدةً منه في الحركة الرابعة: "خذْ الحذرَ، يا ابن آدم!/ ما الذي يقوله منتصفُ الليل العميق؟/ ’لقد نمتُ، واستيقظت من حلم عميق:/ عميق هو العالم،/ أعمق مما اعتقدَ اليومُ العابر./ عميقٌ ألمُه./ ولكن الفرحَ أكثرُ عمقاً من وجع القلب./ يقول الألمُ: اقطع الشوط!/ لأن كلَّ فرحٍ يسعى إلى الأبدية،/ إلى أبدية عميقة، عميقة". الموسيقي الإنكليزي فريدريك ديليوس أنجز عمله "قداس للحياة" عام 1902. وهو عمل كورالي مستوحى من قصائد متفرقة من "هكذا تكلم زرادشت". ولكن الذي بدا لي أكثرهن تأثيراً هو عملٌ متأخرٌ للموسيقي الدنماركي (Vagn Holmboe (1909-1996، بعنوان "قداس جنائزي لنيتشه". هذا القداس وضعه المؤلف عام 1964 لطبقة الصوت الرجالية الوسطى (الباريتون)، وللطبقةِ الصدّاحة (التينور)، إلى جانب الكورس مع الأوركسترا. والنصُّ المُعتَمد سونيتاتٌ شعرية كتبها الشاعر الدنماركي بيورنفج. هنا تتدفق أفكارُ وحياة نيتشه، عبر تأويلات الموسيقي الرمزية لما عُرف عن نيتشه من توقعاتٍ واستلهاماتٍ وكشوفات تمر عبر أتون معتركِه الداخلي، حتى ساعة انهياره التراجيدي المبكر. الموسيقى تتابعُ النصَّ الشعري بألحانٍ من موسيقى الأوركسترا وأصواتِ المغني المنفرد. ففي مُفتتح الجزء الأول نُطلُّ على مشهد لحني وشعري لصحراء: "يخطو فيها المسيحُ داخلَ البرية، شاباً متطلعاً لمواجهة الرب. وعلى ضوء القمر يرتقي أعلى الجبل، وقد استشْعرَ الوحدةَ والهجران". بعده يدخل الكورسُ بلحنٍ يحاول صوتُ الباريتون أن يعيدَه، ولكنْ بإيقاعٍ أسرع وبلهجةٍ تأملية:"أيتها الغدران، أيتها العواصمُ الرائعة، والعوالمُ المجيدة،/ المُبدَّدةُ في سرابِ الرمالِ المديدة./ هاهو ظلُّه يغادرُه، ويصبحان اثنين". بعده نسمع صوتَ المسيح يتردد (أو ربما نيتشه، أو أي مبدع!):" إذا ما ستتعبّدني، فهذا كلُّ ما ستملكه"، وكأنه يعبر بهذا النداء عن كل التطلع (الفاوستي) باتجاه المعرفة.تحت عنوان المدينة "بازِل"، التي قضى فيها نيتشه سنواتٍ عشرةً محاضراً، تدخل موسيقى كوراليةٌ هامسةٌ، متكلمةٌ، ثم صارخةٌ في الفصل الثاني. الكورس هنا يمثل "السوق الضاجّ بالبائعين، وذُرى التلالِ الطوالِ، والليلِ الغيهبِ، والصبحِ المتعب"، الذي عرفناه لدى السياب في قصيدته "العودة لجيكور". ولكنه أيضا مسرحُ الفشل الإنساني، والشكُّ الفلسفي الذي عبّأ كتاباتِ نيتشه جملةً. في هذه السنوات كان شديدَ الإعجاب بـﭬاﮔنر وموسيقاه، ولذلك نسمع أصداءً موسيقيةً من أوبرا "تريستان وأيزولده" تتردد هنا.في الفصل الثالث يغني صوتُ الباريتون بعنف رؤيا نيتشه:" رأى في ريح الفجر النردَ الذهبي...". وهي تشير إلى رؤيا الفرس رمز الحيوية الطبيعية، الذي عانقه نيتشه، والتي كانت المُعانقةُ آخرَ عهد نيتشه مع عقله السوي، عام 1889.
توابل - ثقافات
أصابعُ الفلسفة على الوترِ الموسيقي
17-12-2015