اتفاق نووي ... ودروس في السيادة
أخيرا وبعد مفاوضات شاقة استمرت لأكثر من عقد من الزمان تم عقد الاتفاق التاريخي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول العظمى الخمس إضافة إلى ألمانيا بخصوص ملف إيران النووي، ولعل هناك الكثير من الدروس والعبر التي نستطيع استخلاصها من هذا الاتفاق؛ لأنه ليس مجرد ورقة تفاهم فنية حول موضوع تقني بحت، بل هو أبعد من ذلك بكثير.فلعل الانطباع السائد لدى دول منطقتنا منذ أربعين سنة تقريبا هو أن مصيرها وبقاءها وتطورها الاقتصادي كلها مرتبطة بمدى رضا الدول الكبرى عنها، ولهذا رأينا تخلي الكثير من دول المنطقة عن قضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين مقابل مساعدات مالية ومشاريع هنا وهناك وصفقات طائرات، فماذا كانت النتيجة؟ ما زالت تلك الدول رهينة هذه المساعدات مع زيادة في التخلف والفساد والظلم الاجتماعي، ودون تطور اقتصادي حقيقي ومشاركة شعبية فاعلة، ولذلك لا نجد أن هذه الدول تحظى باحترام الدول الكبرى ولا تعتبر رقما صعبا في المعادلة الإقليمية كما كانت في السابق.
وفي المقابل نرى النموذج الإيراني الذي كان صريحا منذ البداية في رفع شعاره ضد هيمنة الدول العظمى، وجاهر بعدائه للكيان الصهيوني، فكانت النتيجة حرب السنوات الثماني التي مولتها وساندتها عشرات الدول الإقليمية منها والعظمى، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي ازداد شدة مع مرور السنوات، وخصوصا مع استئناف البرنامج النووي، لكن ذلك لم يحط من عزم الدولة والشعب بل زادهما عزة وإصرارا على مواجهة هذه الحرب (بأشكالها المتنوعة) بالاعتماد على النفس. فكانت النتيجة أن هذا النظام- الذي يسخر منه البعض بسذاجة عندما يسميه نظام الملالي- بات قوة عظمى يحسب لها ألف حساب، وقطع أشواطا في التنمية الزراعية والصناعية والعلمية والبشرية، فصار يصنع كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، وجامعاته تنتج سنويا العقول المنتجة المبتكرة بشهادة جامعات الغرب. ولم يكتف (نظام الملالي) بهذه الإنجازات، بل حقق التقدم في المجالات التي يعتبرها البعض متناقضة مع الدين مثل الفنون والمسرح والأدب والسينما حتى استطاع أحد الأفلام الإيرانية حصد جائزة الأوسكار قبل ثلاث سنوات. لقد استطاع النموذج الإيراني إثبات أن الدين لا يتعارض مع التقدم والتطور متى ما طبق بالشكل الصحيح القائم على روح الإسلام الحقيقي الذي يحترم التعدد الطائفي والعرقي، بل أثبت أنه لا يتعارض حتى مع مفهوم المشاركة الشعبية في الحكم، والدليل نظامه الانتخابي الرئاسي والبرلماني الذي يحظى بمشاركة شعبية واسعة تصل لـ70% وأكثر، وهو أمر لا تجده حتى في أعرق الديمقراطيات في العالم، وبالرغم من أن هذا النموذج ليس كاملا دون أي مشاكل حيث لا يزال يعاني بعض التعقيدات البيروقراطية، فإنه بشكل مجمل استطاع إثبات نفسه وفرض احترامه حتى على أعدائه الذين تعاملوا معه تعامل الند للند، وما مشهد جلوس المفاوض الإيراني لوحده أمام أقوى ست دول في العالم إلا دليل على ذلك.فليتنا في العالم العربي نتعلم من هذا الدرس المجاني، ونعتمد على شعوبنا في الإنتاج والعمل والابتكار والتصنيع والبحث العلمي بدلا من الاكتفاء بتصدير النفط واستخدام عوائده للاستهلاك غير المستدام، ويا ليت أنظمتنا تسعى إلى نشر ثقافة التسامح واحترام العقائد بدلا من بث التطرف والتكفير وخطاب الكراهية في محاولة لإلهاء الشعوب بالصراع والتناحر عن الفساد والتخلف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.ويا ليت أنظمتنا تعي أنها لن تستطيع إيقاف عقارب الساعة عن التقدم، وأن ما بني على باطل فهو باطل، وسينهار يوما ما لم نتدارك أمورنا وندفع لإصلاح جدي في كل المجالات، وإشراك الشعوب في صنع القرار بعد تجهيز المناخ المناسب لذلك بعيدا عن التعصب العرقي والمذهبي.