ماذا تبقى من «النيابة»؟!
أحمد الله كثيراً على أنني عشت تلك الحقبة الذهبية للحياة البرلمانية الكويتية الفريدة في المنطقة في زمن كان العالم يعتبر ما يحدث في الكويت حالة استثنائية في التميز بالديمقراطية والحريات في الإقليم كله، فقد حضرت جلسات وأنا غر في السبعينيات من القرن الماضي، وأيضاً وأنا شاب في الثمانينيات، وعملت كذلك منذ بداية التسعينيات ولأكثر من 15 عاماً في مجلس الأمة مساعداً في مكاتب النواب وصحافياً برلمانياً محترفاً.وفي تلك الحقب الزمنية المختلفة عاصرت أعمدة العمل البرلماني الكويتي ومؤسسيه، فلقد تابعت جلسات على مقاعدها النيابية جاسم القطامي وسامي المنيس وعباس مناور وأحمد الخطيب ومحمد المرشد وجاسم الصقر وراشد الحجيلان وأحمد الربعي وحمد الجوعان ويعقوب حياتي وسالم الحماد، وعشرات من نواب الكويت الأفاضل ممن كانوا يحملون احتراماً لمعنى النيابة عن الأمة وشرف القاعة التي يجتمعون فيها لتقرير شؤون البلد ومصالح الشعب.
نعم كانت القوى المعادية للديمقراطية وجزء من السُلطة تستخدم كل نفوذها لتخريب هذا الواقع ودس نماذج من نواب مخربين على البرلمان بكل الوسائل المتاحة لتشويه الصورة والهبوط بمستوى النقاش وقيمته داخل قبة مجلس الأمة، ولكن كانت معظم تلك المحاولات تفشل، لكون الأغلبية لديها ضبط النفس واحترامها لمن انتخبها، وخشيتها من المحاسبة الشديدة من ناخبيها، ولكن "الدق يفك اللحام"، فتفشت "الواسطة" والتكتلات العرقية والمذهبية نتيجة لذلك، إضافة إلى تفشي المال السياسي وشراء الذمم في نهاية التسعينيات. كل ذلك بدأ ينعكس على شكل وأداء النواب داخل القاعة في مجالس الأمة مع بداية الألفية، وبدأنا نشاهد في الجلسات تصرفات غريبة ومستوى متدنياً لبعض ممثلي الأمة، وبدأ التراشق بالأكواب والتنابز بكلمات تمس الشرف والنسب، وكلام مثل "بيسري" و"لبسوك الطوق" والتلويح بـ "العقال" والشتم بالمذاهب، وحلقات المصارعة داخل قاعة عبدالله السالم وعلى أطرافها، وأحياناً كان يشترك فيها الجمهور الذي يحضر الجلسات كما حدث في مجلس الأمة المبطل الأول.وتطورت الرشا التي كان يقدمها أعداء الديمقراطية من تصاريح لإقامات للأجانب لنائب ليبيعها، أو قسيمة صناعية، إلى ملايين الدنانير يجدها نائب في "كبت" والدته أو حيازات زراعية بعشرات آلاف الأمتار المربعة، وتحول التفاؤل الذي سرى منذ عقدين من الزمن بتطور الحياة السياسية الكويتية بعد تشكل الكتل البرلمانية وانتظام عدد من النواب فيها وتطور الكيانات السياسية إلى انتكاسة كاملة تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى السلطة، وثانياً أداء وقرارات نواب المعارضة.واليوم نشهد تدهور البرلمان الكويتي، وعودته إلى ما قبل نقطة البداية، بل إنه أصبح أقرب إلى مجالس الشورى، بلا فاعلية أو أي من ملامح المجالس البرلمانية الفاعلة، بلا كتل ذات رؤى وتوجه وبلا معارضة، وعلاوة على ذلك أداء يكتنفه الضعف والممارسات السلبية، و"الهوشات" التي كان آخرها ما حدث بين النائبين فيصل الدويسان وحمدان العازمي، وما قاله النائب عبدالله المعيوف في حق زميله راكان النصف، لذلك يتساءل الكويتيون: "ماذا تبقى من هيبة ومكانة نيابة الأمة؟".