إسماعيل
لا غروَ أن يحصد إسماعيل فهد إسماعيل إحدى جوائز "العويس الثقافية" هذا العام، ضمن ثلة من أصدقاء القلم ممن ساهموا في صناعة المشهد الثقافي العربي في لحظته الراهنة، فإسماعيل في إخلاصه لفنه الروائي وفي مشواره الدؤوب لإنجاز مشروعه الثقافي، يظل مختلفاً ومشاكساً وعنيداً. وفي الوقت الذي يركن مَنْ في مثل عمره الجميل إلى الدعة والنوم على أمجادٍ غابرة، نراه متجدداً وفتيّاً ومعطاءً، وكأن المشوار لايزال بستاناً، والقلم نحلة تئزّ بالعسل، والحكايا كالهدايا والكلمات لا تنفد. هو مختلف لا شك، سواء في طرحه أو لغته، وكان كذلك منذ "كانت السماء زرقاء"، ومنذ "الأقفاص واللغة المشتركة"، فقد كانت له سماؤه وله لغته المشاكسة المحيرة، وله تراكيبه وتجاوزاته التي يرتكبها مع سبق الإصرار، وهو في اطروحاته لا يقتفي أثر الداني والمتداول بين كتّاب جيله، ولم تجذبه المحلّية الصرفة ولا غوايات التذكّر والاسترجاع في أبعادها التاريخية والاجتماعية. كان ببساطةٍ مخلصاً للحظة الإبداع الراهنة دون اتّكاء على مرجعية أو إرث، ودون تعلّق بزينة أسلوبية أو بلاغة مصطنعة، لكأنه يراود الكتابة في عُريها الأول، ويبدأها من ألِفها الأولى.
وحين يحاول المتأمل أن يضع اصبعه على الهمّ الذي يشغل إسماعيل الفهد في جُلّ أعماله، سيراه متمثلاً في ذلك الاغتراب الإنساني المزمن، والشعور بالضياع والارتباك إزاء الأشياء والوجود والمجتمع المتناقض والسياسة الأكثر تناقضاً وتوحشاً، فأبطال إسماعيل في عمومهم يمثلون الإنسان الهشّ أو المنتهَك، أو التائه في بيداء القلق الوجودي، حيث يبدو كل شيء هلامياً ومشكوكاً في صلابته وجدواه، وشخوصه عادة لا يجترحون بطولة، ولا يبنون أمجاداً، إنما يمرون بالحياة كالأطياف المتلكئة، ويغادرون كما جاؤوا ممتلئين بالفراغ واللاجدوى.نرى ذلك في "الطيور والأصدقاء" النص الذي يذكرنا بعبثية "صمويل بيكيت" وأبطاله الممتلئين بالسأم وانتظار ما لا يأتي، ونراه في بطل "كانت السماء زرقاء"، الذي حاول أن ينسلخ من إنسانيته ومشاعره، ويهيم هارباً وفارغاً دون غاية، ونراه كذلك في بطل "الحبل"، الذي أفرغه النظام القمعي من براءته الأولى وأحاله سارقاً، وفي بطل "يحدث أمس" الشبيه بغريب "كامو"، الذي دفع أثماناً باهظة لذنوب لم يرتكبها، الأمر الذي يجعل من الحياة لدى هؤلاء عبثاً وأحجية تستغلق على الفهم بله القبول والتماهي مع بشاعاتها. ويبدو أن سمة الإنسان الهشّ الحائل إلى هشيم في متاهة وجوده الواقعي والروحي ظلّت تراود الكاتب منذ كتاباته الأولى حتى أحدثها، وربما يستوقفنا أيضاً في هذا السياق "سليمان الحلبي" بطل رواية "النيل الطعم والرائحة"، فحتى حين يختار إسماعيل بطله، ليكون منتمياً أو شبه منتمٍ إلى تنظيم ثوري ضمن فصيل فلسطيني، فإنه يجعله ذا تكوين انفعالي ونفسي هشّ، ويجعله فاشلاً في إثبات جدارته كفرد عامل في التنظيم، الأمر الذي ينتهي به إلى التخبّط ومحاولة تجاوز هذا الشعور بالدونية ونقص الكرامة، والخوف من التشرذم واللاانتماء، وذلك بالتخطيط لاغتيال إحدى الشخصيات السياسية أثناء وجوده في القاهرة، وهكذا تأتي عملية الاغتيال لتعالج مشكلة "سليمان الحلبي" مع ذاته المقهورة والمتضائلة إزاء هشاشة نفسية وكيان متضعضع، لا لتحل مشكلة "سليمان الحلبي" المناضل الفلسطيني الذي يحمل على ظهره قضية شعب ما يبحث عن خلاصه.هذه الهزائم النفسية للفرد الأعزل أمام غوغائية السياسة نراها تتكرر مرة أخرى -وإن بمقاربة مختلفة- في أحد أحدث أعمال إسماعيل فهد إسماعيل، وأعني رواية "طيور التاجي"، والتي تسرد أمامنا مأساة الأسرى الكويتيين إبان وبعد الغزو الصدامي، وما انتهوا إليه من مصير مؤلم لا زال ثماره مرّة المذاق.وهكذا ومن خلال هذا الطرح -بشتى تنويعاته- نستطيع أن نتلمس زاوية النظر للواقع المهيض، يرسلها الكاتب نحو التائهين والمنتهَكين والمترنحين في دروب الحياة، ممزوجةً بالكثير من الفهم والحنو على هشاشتهم ودروبهم المستعصية. وكأنه يوحي أننا جميعاً أشباهٌ لهؤلاء، وقد نكون هم بعينهم. تلك كانت ومضات اختزنتها الذاكرة وأنضجتها القراءة المتأنية في إرث روائي متميز يستحق أن يُقرأ بحب وفهم، ويستحق أن يكون علامة مضيئة في مسيرة الكتابة السردية محلياً وعربياً.