مصر... انتخابات قديمة في عهد جديد

نشر في 11-10-2015
آخر تحديث 11-10-2015 | 00:01
 ياسر عبد العزيز عند إجراء الانتخابات البرلمانية ستكون مصر قد استكملت سلطاتها الدستورية؛ فهي انتخابات قديمة في عصر جديد؛ بحيث ستبقى هذه الانتخابات تعاني استبعاد أطراف معينة من المنافسة، وعزوف قطاع الشباب، وهيمنة القوى التقليدية، وتصاعد دور المال السياسي، والتلاعب بعواطف الناخبين الدينية، والميل إلى تكريس السلطوية، حتى لو تم ذلك عبر الصناديق.

يتوجه الناخبون المصريون إلى صناديق الاقتراع يومي 18 و19 أكتوبر الجاري، لانتخاب أعضاء مجلس النواب (البرلمان) الأول بعد انتفاضة 30 يونيو 2013، فيما يعد إتماماً للخطوة الثالثة من خطوات إعادة بناء النظام السياسي المصري بعد إطاحة "الإخوان".

كان الرئيس عبدالفتاح السيسي (وزير الدفاع آنذاك) قد أعلن ما أسماه "خريطة طريق المستقبل"، في 3 يوليو من عام 2013، وهي الخريطة التي لاقت دعماً من معظم القوى السياسية المصرية، بما فيها السلفيون، والتي نصت على إجراء تعديلات دستورية، وانتخاب رئيس جمهورية، إضافة إلى انتخاب أعضاء مجلس النواب.

لقد أنجزت مصر التعديلات الدستورية بالفعل، وصوت عليها الشعب بنسبة تأييد كبيرة في يناير 2014، وهو العام الذي شهد أيضاً انتخاب عبدالفتاح السيسي رئيساً بأغلبية ساحقة.

بإتمام الانتخابات البرلمانية، ستكون دولة ما بعد "30 يونيو" قد استكملت سلطاتها الدستورية؛ وهو الأمر الذي كان محل مساءلة وإلحاح من عواصم مهمة ومنظمات دولية عديدة، وسيكون بوسع البلاد أن تخطو إلى الأمام نحو تنفيذ بقية استحقاقات "خريطة الطريق"، والتي تتصل بتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنظيم الإعلام، والمزيد من الاعتناء بمشاركة الشباب والمرأة، وتحسين التعليم والخدمات الصحية، وتطوير الخطاب الديني، وتكريس الأمن، وتنشيط الاقتصاد.

لكن الرياح لا تأتي كما تشتهي السفن في كثير من الأحيان؛ إذ يبدو أن المسار الذي تتخذه عملية إعادة بناء الدولة لا يلبي تطلعات معظم من شاركوا في انتفاضة "يناير"، والذين أرادوا قطيعة مع سياسات عهد مبارك، الذي اتسم بالسلطوية، والإقصاء السياسي، وتكريس الفساد، في غيبة المحاسبة. فقبل ثلاثة أسابيع ألمح الرئيس السيسي، في أحد أحاديثه، إلى رغبة في إجراء تعديلات دستورية، وسرعان ما تلقف مؤيدون محسوبون على نظام مبارك تلك الإشارة، ليطالبوا بتعديلات تخصم من صلاحيات مجلس النواب، وتزيد الصلاحيات الرئاسية، بداعي "عدم غل يد الرئيس، وتفادي الارتهان لبرلمان قد ينطوي على تركيبة عشوائية أو معوقة".

كان دستور 2014، قد خفف من النزعة السلطوية لمنصب الرئيس، وأعطى البرلمان صلاحيات واسعة تتصل بتشكيل الحكومة، وسحب الثقة منها، فضلاً عن إمكانية الدعوة إلى استفتاء لسحب الثقة من الرئيس في حال وافقت أغلبية الأعضاء، وكلها قواعد تعزز فكرة التوازن بين السلطات، وتبعد شبح "الفرعونية السياسية" عن مستقبل البلاد.

لكن بعض غلاة مؤيدي السيسي رأى أن هذه القواعد الدستورية تحول مصر إلى نظام شبه برلماني، في وقت لا توجد فيه ثقة كبيرة في نضج القوى السياسية وقدرتها على استخدام صلاحياتها البرلمانية برشد واعتدال. وفي غضون ذلك، ثارت الشكوك في نزاهة الإجراءات الانتخابية، وانسحبت قائمة "صحوة مصر" التي كانت تنوي المنافسة على 120 مقعداً، بداعي عدم دستورية الإجراءات الانتخابية، ومحاباة قائمة "في حب مصر"، التي يعتقد كثيرون أنها مشروع "ظهير سياسي" للرئيس في البرلمان.

كما تعددت الشكاوى من بروز دور المال السياسي، الذي انعكس في أنماط دعاية انتخابية اتسمت بالبذخ، في وقت طالب فيه كثيرون باستبعاد حزب "النور" (الذراع السياسية للسلفيين)، بداعي أنه ينطلق من خلفية دينية، مما يعد "مخالفة واضحة للدستور وقوانين الانتخاب".

وباستعراض قوائم المرشحين، وخلفياتهم السياسية، يتضح بجلاء أن نسبة معتبرة منهم تنتمي تنظيمياً أو فكرياً إلى "الحزب الوطني" الذي تم حله، والذي هيمن على البلاد طيلة ثلاثة عقود تحت حكم مبارك، حيث وُصم بالفساد والعجز، وأخذ مصر إلى انتفاضة "25 يناير"، التي أطاحت هذا الأخير، وانتهت به في السجن.

وبنظرة أكثر شمولاً، سيمكن توقع انضباط إجرائي في العملية الانتخابية، ومشاركة دون المتوسطة، وعزوف من قطاعات الشباب، رغم أن عمليات التزوير الفاضحة التي ميزت عهد مبارك لن يكون لها مكان في هذا الاستحقاق.

لكن الأكثر إثارة للقلق هو ما يتعلق بطبيعة القوى التي ستهيمن على البرلمان الجديد، وما إذا كانت تنتمي إلى عهد ما قبل الانتفاضات، أم تعكس النزوع الجديد الذي ظهر واضحاً في مطالبات المصريين بالحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، عبر تجديد المجال السياسي.

لا يبدو أن المطالبات التي عبرت عنها شعارات انتفاضتي "يناير" و"يونيو" ستجد طريقها إلى البرلمان الجديد، بالنظر إلى هيمنة القوى التقليدية، بشقيها الديني والمدني، على المجال السياسي.

وفي هذا الصدد، فإن فرص "المباركيين"، أو القوى التقليدية المحافظة، التي ساندت نظامي السادات ومبارك، واستفادت من عصريهما، ستجد الأبواب مفتوحة للعودة إلى النفوذ مرة أخرى.

كما أن القوى المحافظة الدينية، ممثلة في السلفيين، ستجد فرصتها بدورها، مدعومة بقطاعات من الناخبين في المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً ومطاوعة للدعاية ذات الطابع الديني.

وسواء كان المرشحون ينتمون إلى اليمين المدني المحافظ، أو إلى اليمين الديني المحافظ، فسيجدون الدعم المالي الكبير، الذي يمكن أن يتم تسخيره في الدعاية، أو في الرشا الانتخابية المادية والعينية.

تلك إذاً انتخابات قديمة في عصر جديد؛ إذ تظل تعاني استبعاد أطراف معينة من المنافسة، وعزوف قطاع الشباب، وهيمنة القوى التقليدية، وتصاعد دور المال السياسي غير معروف المصدر، والتلاعب بعواطف الناخبين الدينية، والميل إلى تكريس السلطوية، حتى لو تم ذلك عبر الصناديق.

من الممكن أن تمنح تلك الانتخابات مصر فرصة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوضاع داخلياً، ومن المؤكد أن الحرص على نزاهتها الإجرائية سيقلل الضغوط الخارجية، وسيحسن العلاقات الإقليمية والدولية، لكن لا يبدو أن تلك العملية قادرة على تقويض الشكوك أو إنهاء حالة التململ.

إن الإقدام على محاولة تعديل الدستور، بشكل يعيد إنتاج صلاحيات رئاسية مطلقة كتلك التي تمتع بها مبارك، عبر مجلس نواب موال، مسألة غاية في الخطورة، لأنها ستشعر الكثيرين بأن ما جرى في مصر اعتباراً من "30 يونيو" لم يكن إطاحة بالفاشية الدينية، إنما كان ثورة مضادة على "25 يناير".

الانتخابات البرلمانية المصرية المقبلة ليست فقط استكمالاً لخطوات "خريطة الطريق"، ولكنها أيضاً الامتحان الذي ستوطد نتائجه لـ"30 يونيو"، أو تعزز الشكوك فيها.

* كاتب مصري

back to top