من أطرف التعليقات التي سمعتها من أحد الأصدقاء حول العنوان الذي غدا يشابه المسلسلات الدرامية في دول أميركا الجنوبية التي قد تتجاوز حلقاتها المئة حلقة، فما يكاد المشاهد أن يصل إلى الحلقة الثلاثين حتى يكون قد نسي أحداث الحلقات الأولى، وعليه أن يعود إليها، وفي اعتقاد صاحبي أن هذه السلسلة من المقالات جاءت نتيجة إقامتي في تلك البلاد الرائعة على مدى ما يفوق أربع سنوات، راق لي هذا التعليق اللطيف، وتمنيت أن تحظى بعض هذه الخواطر التي أدونها في هذه المقالات ببعض الاهتمام من الإخوة والأصدقاء.

Ad

واستكمالاً لأدب الرحلات فقد قمت بزيارة لمدينة بوغوتا عاصمة جمهورية كولومبيا الصديقة، وذلك لتمثيل دولة الكويت والقيادة السياسية في حفل تنصيب الرئيس المنتخب "موريسبا سترانا"، والذي أقيم في الساحة الرئيسة التي تقع أمام مبنى البرلمان، وقد حضر الاحتفال عدد من رؤساء الدول أو ممثليهم، فبدأت مراسم الاحتفال بقيام الرئيس المنتهية ولايته بتسليم نسخة من الدستور إلى الرئيس المنتخب الذي قام بإلقاء كلمة حدد فيها برنامج عمله خلال توليه سدة الحكم، كان يجلس بجانبي وكيل وزارة الخارجية لإحدى دول الربيع العربي الحالية، فسألته هل ترى سعادتك أن لدينا في عالمنا العربي حفلات تنصيب لرؤساء الجمهوريات مثل ما نرى الآن؟ أجاب بألم: نعم لدينا، ولكنها حفلات نصب لا تنصيب.

في اليوم التالي لذلك الاحتفال تشرفت بمقابلة الرئيس، حيث قدمت له التهاني باسم القيادة والشعب الكويتي مع التمنيات له بالنجاح، فكان لقاء مميزا مع شخصية مميزة ما زالت تفاصيله راسخة في الذهن وكأنني أعيشها الآن، فبدأ فخامته سيلا من الأسئلة عن الكويت، وتاريخها ونظامها وشعبها، ثم لماذا أجمع العالم على الوقوف معها والإصرار على المشاركة في حرب تحريرها في تحالف لم يشهد له العالم مثيلاً.

 وفجأة سألني: هل تذوقت القهوة الكولولمبية، وقبل أن أجيب وقف واتجه نحو مكتبه وأخرج من أحد الأدراج "جولة" صغيرة مع إناء لإعداد القهوة، حاولت مساعدته لكنه أصر على أن يقوم بنفسه بذلك، ثم واصلنا الحديث الشيق، حيث اقترح عليّ فخامته أن أقوم بزيارة لمدينة "قرطاهينة" أو "قرطاجنة" الكولومبية، وبالفعل في اليوم التالي قمت بزيارة لتلك المدينة الرائعة بجبالها وسهولها وسواحلها الخلابة، بسورها القديم وقلاعها التي قامت منظمة اليونسكو بإدراجها من ضمن التراث العالمي.

 لاحظت في تلك المدينة الرائعة شارعا صغيرا تقع على جانبيه محلات لصناعة المجوهرات ذات الماركات العالمية وبيعها، والتي تستخدم "الزمرد الأخضر الكولومبي" الذي يعتبر من أنقى وأغلى أنواع الزمرد في العالم، ومن الرحلات الممتعة التي قمت بها كانت زيارة جزيرة "سان مارتن" في البحر الكاريبي التي تقع تحت الحكم الفرنسي والهولندي، وتفصل بين القسمين لوحة ترحيبية نصبت في الطريق الجبلي الرائع.

 وفي مقابل جزيرة سان مارتن تقع جزيرة "فيني" البركانية غير المأهولة، وهي من الصغر بحيث لا تُرى على خريطة العالم، وقد تم تحويلها إلى معلم سياحي، حيث تتميز بسواحل رملية غاية في الروعة، ويمكن السير داخل البحر لمسافات بعيدة ومشاهدة بعض الأسماك ونبات المرجان البنفسجي، وفي أحد أطراف الجزيرة أقيم مطعم شعبي يقدم الأسماك والمأكولات البحرية المجهزة على الطريقة الكاريبية، وبجانب ذلك المطعم أقيم معرض لبيع التحف التذكارية، دخلت إلى ذلك المتجر وقد جاء مالكه للسلام، ثم سألني عن بلدي وعندما أخبرته أني من الكويت شدّ على يدي وأجلسنبي بجانب مكتبه، وفتح أحد الأدراج وأخرج "غترة وعقال وشماغ"، وقبل أن أسأله من أين لك هذا؟ بدأ حديثا صادرا من القلب:

 "أنا أميركي أعود بأصولي إلى هذه الجزيرة، أنا أعتز وأفخر بأني كنت من ضمن القوات التي شاركت في تحرير بلدكم من احتلال ظالم، لقد كانت أياماً غاية في القسوة، ليس عليكم فقط بل كانت على كل فرد شارك في تلك الحرب، فقد كنا نضع أرواحنا على أكفنا ونحن نقاتل نظاماً دكتاتورياً لا قيمة لديه للروح البشرية، لكم هو شعور رائع أن تشارك في تحرير بلد يتعرض أهله لجميع أنواع الظلم والقهر والتدمير".

في تلك اللحظات انتابني إحساس رائع أن أرى هذا الصديق وقد أتى من آخر أصقاع الدنيا من هذه الجزيرة التي لا نعلم حتى بوجودها، جاء ليشارك في تحرير بلدي الذي تعرض لعدوان غاشم من أقرب جار يجمعنا معه الدين والعروبة، وقفنا معه وشددنا أزره في الوقت الذي تخلى عنه الكثير من حلفائه، ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.

 حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.