هل كان ربيع العرب...«ثورة»؟ (1-2)

نشر في 24-12-2015
آخر تحديث 24-12-2015 | 00:00
 خليل علي حيدر الثورات تنجم عن أسباب مختلفة، حيث تلعب قياداتها وظروف الصراع في حالات كثيرة دورا مصيريا وعاملا موجها لتطور مسارها.، فهل كانت اضطرابات وأحداث «الربيع العربي» ثورة؟ أم مجرد فوضى وعنف وفورة؟ أم أنها كانت مؤامرة ودورة داخل أفلاك مجهولة؟

أتمنى وأنا أتابع أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وكل ما رافق ذلك من صراعات سياسية وعسكرية، ومآسٍ ومباهج وتوقعات وخيبات أمل، أن يسلك التاريخ الدروب التي نتمناها، وأن تحقق الأهداف التي نحلم بها، ولكن هيهات!

لقد تغير العالم العربي في اتجاه ما إلى الأبد بعد طول صمت وسكوت، وانفجرت بعض شعوبه ودوله متحركة في كل صوب واتجاه، فبات أغلبنا أسرى ما نرى ونخشى من انتفاضات واضطرابات وحروب وجرائم ومحاولات قتل وإرهاب، وأقبل الكتّاب والإعلاميون بعضهم على بعض يتلاومون في عدم إدراك حقيقة هذه "الثورات" وأجنداتها الخفية، ومصالح الغرب ومخططات إسرائيل وأهداف الجماعات الإسلامية وأشياء كثيرة أخرى، لا يستطيع أحد إبداء القول الأخير فيها، سواء من عارضها في البداية أو تبرأ منها في النهاية.

والآن هل كانت اضطرابات وأحداث "الربيع العربي" ثورة؟ أم مجرد فوضى وعنف وفورة؟ أم أنها كانت مؤامرة ودورة داخل أفلاك مجهولة؟

علماء السياسة منقسمون حول هذه الأحداث الجسام، فالبعض يعتبرها ثورة أو ثورات، وهؤلاء يستخدمون عادة تعريف الثورة Revolution بأنها، كما تقول مثلا "موسوعة العلوم السياسية": "عمل شعبي عنيف يفضي إلى تحول جذري كلي لنظم المجتمع"، أو كما يعرف القاموس المرفق بالموسوعة البريطانية Britannica World Language Dictionary. NY 1964 كلمة "يثور" Revolt بأنها تعني إلغاء الولاء والخضوع، أو الانتفاض والتمرد ضد السلطة، والاحتجاج والرفض وغير ذلك.

«A throwing off of allegiance and subjection; an uprising against authority; a rebellion or mutiny; insurrection. An act of protest, refusal, revulsion, or disgust»

وذهبت إلى قاموس "المكنز الكبير"، د. أحمد مختار عمر، أحد أفضل القواميس العربية المعاصرة في إيراد المترادفات والمتضادات فرأيته يورد المعاني والكلمات الآتية تحت كلمة "ثورة"، مثل انتفاضة، بمعنى "ثورة وتمرد على الظلم"، وانقلاب بمعنى "ثورة ضد النظام"، وبلبلة بمعنى "اضطراب واختلاط" وعصيان وفتنة. (الطبعة الأولى- الرياض، 2000).

فنرى أن لكلمة الثورة في اللغتين العربية والإنكليزية، وربما في لغات أخرى، استخدامات ومعاني عدة قد تكون متقاربة، ولا تستخدم كلمة "الثورة" حصراً على نوعية معينة من التغيير الشامل بالضرورة، كالذي عرفته الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية مثلا.

كما تعني كلمة الثورة بالإنكليزية Revolution  كذلك الدوران حول النفس، والدوران حول محور ما كما تدور الكرة الأرضية والكواكب، وتطلق كذلك على سلسلة من أحداث التغيير المتوالية إلى جانب ما تعني بالطبع من إسقاط الحكومة من قبل مجموعة ما وتولي الحكم بدلا عنها.

وتقول موسوعة العلوم السياسية نفسها إن الثورة تجتاز مراحل خمسا هي: التمهيد والتحضير للثورة بمعنى ظهور المناخ المواتي من غضب شعبي عارم تولده الممارسات الهابطة أو الأداء المنحط للنظام القائم، انهيار أو تداعي النظام القديم، تقويض العلاقات والروابط القديمة، وتشييد علاقات جديدة ثم استقرار النظام الجديد.

 (موسوعة العلوم السياسية، تحرير د. محمد محمود ربيع ود. إسماعيل صبري مقلد، جامعة الكويت، 1993، ص 488).

لم تسر بالطبع كل "ثورات" الربيع العربي على هذا المنوال، ولا شك أن بعضها لم تكن ثورة حقا غير أن هذا التعريف متلائم خاصة مع تعريفات المراجع الماركسية أو الاشتراكية للثورة، والتي تطلق على عملية تغيير النظام على نطاق واسع وعميق وتسميها "ثورة اجتماعية" في إطار أيديولوجي معروف في النظرية الماركسية.

وتقول المصادر السوفياتية في تعريف "الثورة الاجتماعية" إنها "استبدال تشكيلة اقتصادية اجتماعية بأخرى غيرها أرفع مستوى، وتحطيم جذري للنظام القديم البالي، وترسيخ مؤسسات اجتماعية جديدة أكثر تقدما، وقفزة للمجتمع من مرحلة في تطوره إلى أخرى". (المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، موسكو، دار التقدم، 1986، ص 161).

ولابد لهذه الثورة من مقدمة، يضيف المعجم، "هي تأزم العلاقات الاجتماعية، الذي يقوم- في نهاية المطاف- على خلل حاد في البنية الاقتصادية: عندما تغدو العلاقات الإنتاجية أصفادا تقيد تطور القوى المنتجة".

ويرتبط هذا الشرط بالنظرية الماركسية وتفسيرها لمراحل التطور بين الأنظمة الاجتماعية من مشاعية وإقطاعية ورأسمالية، وأخيرا الاشتراكية، ويقول المعجم إن هذه الشروط كذلك لا تكفي لقيام الثورة، "فقد يستنفد النظام المعني كل طاقاته، ويكون المجتمع في حالة أزمة دائمة، بيد أن القوى القادرة على إقامة مؤسسات جديدة غير موجودة أو لا تزال ضعيفة".

وعن مسار الثورات يقول المعجم إن "الثورات السياسية لا تجري بناء على توصيات مسبقة، وإنما تأتي حصيلة تطور طبيعي للمجتمع، فيتعذر قيام الثورة بدون توفر "الحالة الثورية"، حيث ترفض الجماهير المحكومة العيش وفقا للأنظمة القديمة، في حين لا تستطيع الطبقات الحاكمة "العليا" مثابرة الإدارة بالطرق القديمة، وحيث يطرأ نهوض عارم على فعالية الجماهير الاجتماعية السياسية، وثمة أنماط كثيرة من الثورات السياسية، تتوقف إلى حد كبير على طابع قواها المحركة والظروف الوطنية والوضع الدولي وغيرها".

وتحدد "موسوعة الهلال الاشتراكية"، الصادرة في مصر عام 1970، الثورة الاجتماعية بأنها" فورة صاعدة ذات تأثير عميق المدى على حياة المجتمع الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، فهي تؤدي إلى تغيير التكوين الطبقي للمجتمع وتعديل أشكال الدولة، كما أنها تلغي علاقات الإنتاج القديمة لتحل محلها علاقات جديدة".

 وتشترط الموسوعة ثلاثة شروط لحدوثها: فـ"الثورة الاجتماعية لا تنشب بمجرد مشيئة فرد معين أو بناء على إرادته ولكنها تستلزم لقيامها ظروفا موضوعية تتحقق ببروز الظواهر التالية:

1 - وقوع أزمة عامة تمتد على نطاق الأمة وتؤثر في كل الطبقات، أي عندما يصبح من المستحيل على الطبقات الحاكمة أن تعيش وتحكم بالأسلوب القديم، ويزداد في الوقت نفسه سخط الطبقات المقهورة وترفض الحياة في إطار ذلك الأسلوب.

2 - ازدياد فقر الطبقات المقهورة، ومعاناتها إلى أقصى حد ممكن.

3 - زيادة ملحوظة في نشاط الشعب، ففي الأوقات العادية يكون الشعب هادئا نسبيا أما في وقت الأزمات فإن  الظروف تدفع الأفراد إلى القيام بنشاط ثوري واضح، والموقف الثوري، أي الظروف الموضوعية لا تؤدي بالضرورة إلى الثورة، ولكنها تخلق فحسب إمكانية قيامها". (موسوعة الهلال الاشتراكية، إشراف كامل الزهيري، القاهرة: دار الهلال، 1970).

ولا يخفى أن في هذه التحليلات النظرية الكثير من المبالغة وعدم الدقة لا مجال هنا للخوض فيها، فالثورات تنجم عن أسباب مختلفة، ولا تتوافر فيها جميعا كل هذه المقومات التفصيلية، وتلعب قياداتها وظروف الصراع في حالات كثيرة دورا مصيريا وعاملا موجها لتطور مسارها، ولعل خير مثال نشير إليه الثورة الروسية نفسها، ثورة أكتوبر 1917، التي يعتبرها الكثير من مثقفي العالم الثالث الثورة النموذجية في التنظير.

فقد أسقطت ثورة فبراير عام 1917 الحكومة القيصرية الروسية وأقيمت حكومة مؤقتة إصلاحية ليبرالية، وربما اشتراكية معتدلة بقيادة "ألكسندر كيرنسكي yksnerek (1881 - 0791) وكانت الأحزاب الروسية والحكومية المؤقتة في تباحث حول مستقبل روسيا والثورة عندما وصل لينين إلى روسيا من أوروبا، وقاد بجماعة صغيرة نسبيا ومحكمة التنظيم وذكية التخطيط ما سمي فيما بعد بـ"ثورة أكتوبر البلشفية العظمى" التي أطاحت بالحكومة المؤقتة، وفرّ كيرنسكي إلى أوروبا ثم إلى الولايات المتحدة، واستمر هذا النظام البلشفي متسلطا على روسيا حتى عام 1990 حيث تهاوى تاركا البلاد في فوضى شاملة.

ولم تكن "علاقات الإنتاج" ولا "قوى الإنتاج" في روسيا قبل عام 1917 بتلك الدرجة من التطور والتقدم والتصادم التي تشترطها النظرية الثورية كي تنتقل روسيا آنذاك، وكانت دولة فلاحية متخلفة، من الرأسمالية إلى أعلى درجات الاشتراكية التي طبقها البلاشفة، لدرجة أن قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين نفسه Lenin (0781- 4291)تراجع عن بعض خطوات حكومته الثورية في برنامجه المعروف "السياسة الجديدة" التي تبنى فيها من جديد بعض مبادئ الاقتصاد الحر والرأسمالية قبل أن يرحل ويستولي جوزيف ستالين على السلطة.

back to top