الاقتصاد العالمي وآلام المخاض

نشر في 28-12-2015
آخر تحديث 28-12-2015 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت قد يتطلب التباطؤ الاقتصادي الكوكبي الحالي، الذي بدأ عام 2008 بالأزمة المالية في الولايات المتحدة، معدلات تحمّل قياسية جديدة، ولكن المؤكد أنه مع تباطؤ النمو في اليابان وكذلك في الصين، ومع الأزمة العميقة في روسيا، والتعافي الهزيل في منطقة اليورو، لا يمكن القول إن الاقتصاد العالمي قد خرج من دائرة الخطر.

إن هذا «الركود المستمر»، فضلاً عن بعض النزاعات السياسية العالمية، ليسا سوى تجليات لتحول أعمق في الاقتصاد الكوكبي؛ تحول يقف خلفه نوعان من الابتكارات: توفير الأيدي العاملة وربط أوصال العمل بعضها بعضا.

ورغم أننا نعرف منذ زمن طويل ابتكار توفير الأيدي العاملة فقد ازداد مع الوقت رسوخاً، فالمبيعات الكوكبية للإنسان الآلي الصناعي، على سبيل المثال، بلغت 225000 عام 2014، أي بنسبة زيادة تبلغ 27 في المئة كل سنة مقارنة بالسنة السابقة لها، على أن التحول الأعمق يتمثل بتوسع تكنولوجيا «ربط العمل»: فالاختراعات الرقمية طوال العقود الثلاثة المنصرمة مكنت الناس الآن من العمل لمصلحة أرباب عمل أو شركات في بلدان مختلفة دون الحاجة إلى الهجرة إليها.

وتحولت هذه التغييرات إلى نزعة إحصائية ملحوظة في بلدان مرتفعة الدخل ومتوسطته، وبينما ينخفض إجمالي دخل العمل كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في جميع المجالات وبمعدلات نادرة الحدوث، فقد هبط دخل العمل من عام 1995 إلى 2015 من 61 في المئة إلى 57 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، وفي أستراليا من 66 في المئة إلى 54 في المئة، وفي كندا من 61 في المئة إلى 55 في المئة، وفي اليابان من 77 في المئة إلى 60 في المئة، وفي تركيا من 43 في المئة إلى 34 في المئة.

وفي الاقتصادات الناشئة، يجري تخفيف وطأة ابتكار توفير الأيدي العاملة على المدى المتوسط بالاستعانة بتكنولوجيات ربط العمل، ويمكن لهذه الاقتصادات أن تستفيد للغاية من هذا التغيير البنيوي الكوكبي، حيث العمالة فيها رخيصة الأجر، وبوسعها تنظيم صفوفها جيداً بالقدر الكافي لتشييد البنية التحتية الأساسية وتوفير الأمن.

ويتجسد هذا بالأرقام، ففي عام 1990 كان 5 في المئة فقط من الشركات على قائمة «فورتشن 500» من الاقتصادات الناشئة، في حين بلغت هذه النسبة الآن 26 في المئة.

وتحتل الشركات الصينية مكانة بارزة في القائمة، وفي الهند انطلق قطاع تكنولوجيا المعلومات منذ تسعينيات القرن المنصرم ليرفع معه معدل نمو الاقتصاد بأكمله، وتعد الشركة الماليزية بتروناس للنفط والغاز، التي تأسست عام 1974، بمشاريعها في 35 دولة، واحدة من «الشقيقات السبع» الجديدات، أي شركات الطاقة التي تهيمن الآن على السوق الكوكبي.

لا شك في أن العديد من الاقتصادات الناشئة يعاني الفساد وهبوط أسعار السلع الأساسية، والبرازيل التي من المتوقع انكماش ناتجها المحلي الإجمالي بنحو 3 في المئة عام 2015 مثال ساطع لهذه الظاهرة، ومع ذلك فالبلدان الوحيدة التي تسجل معدلات عالية لنمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي هي بلدان الاقتصادات الناشئة، بما في ذلك فيتنام (6.5 في المئة) والهند والصين وبنغلاديش ورواندا (قرابة 7 في المئة) وإثيوبيا (أعلى من 9 في المئة).

ومن المرجح أن نرى عام 2016 وما بعده أداء متبايناً، وذلك مع مضي الاقتصادات الناشئة، القادرة على التكيف مع العالم الجديد، قدماً إلى الأمام، وحتى خلال حدوث هذا ستعاني البلدان ذات الدخل المرتفع والمتوسط ضغوطاً، إذ سيخوض عمالها منافسة للحصول على وظائف في سوق عمل تحول إلى سوق كوكبي، في حين سيميل التفاوت في دخولهم إلى الزيادة، وستزداد أيضاً وتيرة الصراع السياسي وشدته، وسيكون من الخطأ الرد على هذا، كما يقترح بعض السياسيين، بمنع الاستعانة بمصادر خارجية، فقد تفضي التكلفة العالية للإنتاج في هذه البلدان إلى خروجها من المنافسة في الأسواق الكوكبية.

ومع استمرار الزحف التكنولوجي، ستستفحل في نهاية المطاف هذه الضغوط لتغطي أرجاء العالم، ومع تقلص مكتسبات العمال سيتفاقم التفاوت الكوكبي، الذي بلغ بالفعل حداً لا يطاق، وخلال حدوث هذا سيتمثل التحدي في ضمان ألا ينتهي كل النمو في الدخل إلى خزائن أولئك الذين يملكون الآلات والأسهم.

إنه تحد مماثل للتحدي الذي واجهته المملكة المتحدة إبان الثورة الصناعية في مطلع القرن التاسع عشر، ففي ذلك الحين تفشت ظاهرة عمالة الأطفال وكانت تعد أمراً طبيعياً، وكان العمال يعملون بشكل روتيني 14 ساعة أو أكثر في اليوم، حينها كان المحافظون يزعمون أن الكدح المستمر يساعد في بناء الشخصية (ومن نافلة القول إنهم لا يعنون بذلك شخصياتهم بل شخصيات أناس آخرين)، وكان نشاط الجماعات التقدمية وكتابات المثقفين والجهود المضنية التي بُذِلت هي التي أفضت إلى صياغة قوانين المصانع التي قضت على هذه الممارسات الكريهة، ومكنت المملكة المتحدة من تجنب الكارثة والتحول إلى طاقة للنمو والتنمية.

ويمكننا بالعودة إلى سجلات الأرشيف معرفة عمق التغير الذي طرأ على تفكيرنا، ففي عام 1741 أشار جون وايت أثناء ترويجه لآلة غزل جديدة تعمل بالبكر من اختراعه، إلى الكيفية التي سيُمَكن بها اختراعه مُلاك المصانع من استبدال ثلاثين من العمال البالغين بـ»عشرة من العجزة والأطفال»، وذهب المدعي العام الذي منح جون وايت براءة الاختراع إلى أبعد من ذلك قائلاً: «حتى الأطفال في أعمار الخامسة أو السادسة» يمكنهم تشغيل هذه الآلة.

واليوم، آن الأوان للمضي في جولة أخرى من الإصلاح الفكري والسياسي، إذ إن أحد أشكال الظلم المروع في عالمنا هذا هو أن أشد أشكال الظلم الإنساني تقع مباشرة مع الولادة، حيث يعاني أطفال يولدون في أسر معدمة سوء التغذية والتقزم منذ اللحظة الأولى لولادتهم، في حين يرى عدد قليل من الأطفال النور كورثة لمخازن ضخمة من الدخل والثروة المُكدسة، وسيتعمق هذا التفاوت مع انخفاض دخل العمل، مسبباً أزمات اقتصادية وسياسية متنوعة.

وسيتطلب التصدي لهذه الأزمات، في المقام الأول، بذل جهد أكبر لنشر التعليم وبناء المهارات وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، وسنكون بحاجة إلى تفكير ابتكاري لتحقيق هذه الأهداف، بيد أننا بحاجة أيضا إلى التفكير في سبل جديدة لتعزيز دخل العمل.

ومن الأمثلة على ذلك أشكال معينة لتقاسم الأرباح، فإذا امتلك العاملون حصة في شركاتهم فلن تكون الابتكارات التكنولوجية مصدراً للقلق؛ لأنه سيتم تعويض الخسائر في الأجور بالزيادة في صافي عائد المساهمة في رأس المال.

ولقد تناول هذا الموضوع اقتصاديون وباحثون قانونيون بمن في ذلك مارتن ويتزمان وريتشارد فريمان وروبرت هوكيت، ولكن، ومثلما هي الحال مع كل الابتكارات، يتطلب الأمر أبحاثاً كثيرة لكي نسير على الطريق الصحيح، وما علمنا إياه عام 2015 هو أننا لا نملك رفاهية ألا نفعل شيئاً.

* كوشيك باسو | Kaushik Basu ، نائب أول لرئيس البنك الدولي ورئيس الخبراء الاقتصاديين بالبنك، وأستاذ الاقتصاد بجامعة كورنيل.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top