المفكر توفيق السيف: دعوات التطرّف في العالمين العربي والإسلامي تستثمر التوترات العميقة وتعيد تفسيرها بإطار ديني
أكد المفكر والباحث في العلوم السياسية والفلسفة الإسلامية د. توفيق السيف أن ما يحدث في المنطقة العربية والخليجية منها، على وجه الخصوص، من توتر بين الشيعة والسنة «طبخ على نار الفرقة والفتنة»، وعبر مقاربات عدة في مؤلفاته التي تناولت الديمقراطية والاستبداد والأطروحات الدينية ذات الإشكاليات الكبرى، ومقارنات مع ما يحدث في المنطقة من توتر ونزاعات؛ أشار مرارا إلى أهمية دور المثقفين والدولة لتحقيق «الاندماج الوطني» بإرادة عامة على أرضية شراكة في الوطن وفي المسؤولية عنه، واستناداً إلى أرضية القيم الإنسانية الجامعة والمصالح المشتركة. وفي مساعيه لطي صفحة الجدل المذهبي والتأكيد على الهوية الوطنية الجامعة، وصولا إلى تعزيز الوحدة الوطنية والسلام الأهلي، كان للسيف مساعٍ مختلفة مع مجموعة من الناشطين الحقوقيين والمثقفين لتخفيف المشاعر الانقسامية بين الشيعة والسنة، أثمرت تفهماً متبادلاً، ولكنها لم تخل من محاولات كثيرة لإيقاف هذه الجهود وإفشالها!حاورت {الجريدة} د. توفيق السيف للتوسع في قراءته الاجتماعية لما يحدث من تنازع طائفي، وتحليلاته السياسية لما تشهده المنطقة.
الطائفية تقوم من الرماد بأبشع صورها.. ما الذي يحدث؟رأيي أن التنازع الطائفي واجهة لتوترات أخرى أكثر عمقاً وتأثيراً. وهي كامنة في البيئة الاجتماعية وتظهر بين حين وآخر. أهم تلك التوترات في ظني ثلاثة، هي:1 انعدام أو ضعف القيم المؤسسة للفردانية وحرية الاختيار. 2 فقدان العدالة الاجتماعية ولا سيما المساواة في الفرص المتاحة في المجال العام أو المتولدة عن الاستثمار العمومي.3 صدمة الحداثة والعجز الثقافي عن توليف رؤية ملائمة تجاه العلاقة مع الغرب الغالب. هذه التوترات يصعب شرحها كما هي في كل الأوقات، لأن الثقافة السياسية العربية والإسلامية لا تعترف بها كمبررات كافية للتمرد. ولهذا فهي تلبس عباءات مختلفة تتناسب مع التوترات السياسية الموازية زمنياً أو مكانياً. في الوقت الراهن ثمة أزمة في العلاقة بين السنة والشيعة ولهذا يلبس كل توتر هذه العباءة ولو لم تكن محركه الأبرز. يمكن القول أيضاً إن التوتر بين الشيعة والسنة القائم حالياً يشكل «متغيراً» أو «معجلا» لانطلاق نواتج التوترات الأعمق التي أشرت إليها اعلاه.لا بد من مهمة عاجلة لردع الجماعات المتطرفة، أهي مهمة صناع القرار من السياسيين أم المفكرين والباحثين أم هي مهمة المجتمع؟من المهم في ظني التمييز بين البيئات الحاضنة للعنف وبين الجماعات التي تتبنى العنف أو تمارسه، فلكل من الاثنين علاج مختلف. العلاج الأمني قد يكون فعالا في الثانية. أما تفكيك البيئات الحاضنة للعنف فيحتاج إلى علاجات طويلة الأمد ترتكز بشكل أساسي إلى مبدأ ترسيخ العدالة الاجتماعية وزيادة الفرص المتاحة في المجال العام، وتمكين الأفراد من صنع مستقبلهم بأنفسهم والمشاركة في الحياة العامة، اعتمادا على كفاءاتهم وجهدهم الشخصي، بدل حالة الاستنساب والتمييز القائمة حالياً.العملية ككل مهمة المجتمع بكل شرائحه. لكنها تتطلب استراتيجية تقودها الدولة وتنفق عليها وتحمي مدخلاتها ومخرجاتها قانونياً، وتتحمل أعباءها السياسية.وأظن أن معظم حكوماتنا ليس راغباً في حل من هذا النوع أو غير راغب في دفع ثمنه السياسي.ما آليات مواجهة الإرهاب والجماعات الإجرامية في عالمنا؟في ما يخص جماعات العنف اقترح نوعين من الحلول:• الحل الامني الذي يعالج الاحتمالات المؤكدة والخطرة.• الحل السياسي والقانوني وهو تشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني التي يمكن ان تشكل بديلا أكثر لينا وعقلانية. لاحظنا أن كثيرا ممن ينتمون إلى جماعات العنف كانوا من الشبان العاديين الذين لديهم تطلعات، لكنهم عجزوا عن تحقيق تطلعاتهم، بسبب ضيق الإطارات المتاحة في المجتمع للعب أدوار أو تحقيق تطلعات، لا سيما من نوع التطلعات العامة (المتعلقة بإصلاح المجال العام أو التأثير فيه). لا شك في أن توسيع وتشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني سوف يستوعب شريحة مهمة من الشبان الذين تمتصهم الآن جماعات العنف او تعيد تشكيل قناعاتهم.بح صوت مثقفي العالم العربي من أجل السلام ومقاومة التشدد والإرهاب.. ولكن ثمة عقول مدمرة ومدبرة متمكنة من تنظيم قواعد قوية مؤثرة في الشباب لتجنيدهم، فما الذي يتميز به هؤلاء؟كل من يدعو إلى فكرة سيجد مؤيدين وأنصاراً. الدعوات المتطرفة تحصل على انصار لأن أي مجتمع يحوي أشخاصاً يميلون، لأسباب نفسية أو ثقافية، الى الحلول الحاسمة والسريعة. وأظن أن دعوات التطرف في العالم العربي والإسلامي تستثمر بكفاءة التوترات العميقة، وتعيد تصويرها أو تفسيرها في إطار ديني أو بلغة دينية، قادرة على منح الاشخاص رضى عن ذواتهم وقناعة بأدوارهم إذا تبنوها.نشير هنا مثلا الى الدعوات العنصرية والنازية أو شبه النازية في أوروبا التي تحصل أيضاً على انصار، لأنها نجحت في استثمار مشكلات اقتصادية أو اجتماعية، مثل البطالة أو ارتفاع معدلات الجريمة، وذلك باعادة تفسيرها أو تصويرها كنتيجة لزيادة عدد المهاجرين الأجانب (الأقل ثقافة أو الأدنى إنسانية حسب تصويرهم). زبدة القول إن الدعوات المتطرفة تنجح مثل غيرها في أي مجتمع ، نظراً لوجود شرائح اجتماعية تبحث عن حلول سريعة أو حاسمة. وهذا أيضاً يمكن تخفيف آثاره من خلال ما يسمى عقلنة المطالب الفردية في اطار منظمات المجتمع المدني، أو الحوار الشفاف بين المجتمع والدولة.لطالما ناديت، دكتور، الأنظمة السياسية لوضع الإستراتيجيات الاجتماعية والقانونية، متمثلا بتجربة أميركا في الإدماج الاجتماعي، هل يمكن لمجتماعاتنا أن تنصت وتتحرر من انغلاقها؟لو كنا نبحث عن «حل تاريخي»، فإن تجربة الدول الصناعية في الاندماج الاجتماعي تمثل نموذجاً يستحق الاحتذاء. بريطانيا أعلنت التحول الى مجتمع متعدد الثقافات في الربع الثالث من القرن العشرين، أما الولايات المتحدة وكندا واستراليا فقد قامت منذ البدء كمجتمع تعددي، تندمج فيه الهويات الصغرى في إطار الهوية الوطنية الجامعة التي يرمز إليها شعار «الحلم الأميركي».فكرة الاندماج ليست مجرد نداء لتبجيل الوطن بل منظومة متكاملة من القوانين والسياسات التي تحمي الهوية الفرعية، في الوقت الذي تجعل فيه الهوية الوطنية الجامعة حاجة ومصلحة فردية لكل شخص. بعبارة اخرى فإن الأميركي يجد مصلحة مباشرة في اعتبار نفسه أميريكياً أولا، لكنه في الوقت ذاته لا يشعر بمزاحمة أو ضغط أو حرج يتناول هويته الأخرى التي تتعلق بالأصل العرقي أو الدين أو الثقافة أو التاريخ.حدثنا عن تجربتك في التقاء بعض المتشددين فكرياً ومحاولاتك لإيجاد لغة حوار مشتركة. خلال السنوات الماضية بذلت مع أصدقاء آخرين محاولات لتخفيف المشاعر الانقسامية بين الشيعة والسنة في المملكة. وركزنا فيها على عقد حوارات بين رجال دين ومثقفين ينتمون إلى المذاهب السنية والسلفية والشيعية في المملكة والخليج. وأظن أنها اثمرت عن تفهم متبادل.لكن بعض الجهات الرسمية لم يرغب في استمرار هذه الجهود. كما أن بعض المتشددين قام بجهود لافشالها، فتوقفت. خلال السنوات الخمس الماضية تفاقم الانقسام المذهبي بسبب الانعكاسات السلبية للأزمات الاقليمية، وانحسرت تماما كل محاولات التقارب، بل إن بعض من كانوا مهتمين بهذا المشروع أصبح متشككاً في نتائجه المحتملة.لم تعد المجتمعات العربية بيئة خصبة ومثالية لإنتاج حركات متشددة عديدة رغم استنادها على فكر أصولي وحيد؟ المجتمعات العربية عموماً تفتقر إلى شبكات أمان اجتماعي. كما أن الأنظمة السياسية ليست قائمة على قاعدة شراكة المواطنين في القرار، رغم أن معظمها يقول ذلك في الدستور أو في الخطاب السياسي العام.نتيجة لذلك فإن النظام القيمي والعلائقي الذي يحكم البيئات الاجتماعية ليس مؤهلا لاستيعاب التحديات الجديدة ، سواء تلك القادمة من تحولات ثقافية واقتصادية داخلية، أو تلك الناتجة عن تحولات في المحيط. الأزمات البسيطة سرعان ما تتشابك مع بعضها وتتحول إلى توترات شديدة، تتفاقم بسبب الافتقار إلى شبكات الأمان وندرة أو انعدام الإطارات القانونية لاستيعاب التحولات في القيم والأدوار. وهذا يوفر فرصة لظهور نزعات جذرية أو متطرفة.صرحت مرة بأنك لا ترى ضيراً في إلباس الأعراف والتقاليد والمصالح عباءة الدين، أليست هذه تحديداً أساس مشكلات مجتمعاتنا كلها؟أميل إلى التمييز بين الدين في صورته النظرية وبين التدين، أي الدين في صورته الواقعية في المجتمع. نحن نتحدث عن الدين في المعنى الثاني، أما الأول فهو مجرد نظريات أو تطلعات مثالية. في كل حقبة يخترع المؤمنون أعرافاً وتقاليد وأنماط معيشة، هي توليف من معتقداتهم الدينية وحاجاتهم المعيشية، أي أنها إطار تطبيقي لما يرونه وما يفهمونه كقيم دينية، أي ما يعتبرونه ديناً أو طريقاً الى رضى الله سبحانه. هذه التقاليد ليست دينا بالمعنى الأول، اي المثالي المرجعي، بل بالمعنى الثاني. ولا أرى في ذلك ضيراً. لأن الناس يفعلون ذلك رغبة في المحافظة على الإطار الديني لحياتهم. وهي من الجهة الثانية تشكل فهمهم للدين في زمن محدد ومكان محدد. غاية الأمر أنني لا أرى هذه الاعراف والتقاليد مقدسة أو عابرة للزمان والمكان، بل هي اقرب الى نموذج محلي تاريخي للإيمان.هذا ليس سببا لمشكلات المجتمع. بل أرى أن الإقرار بها وتفهمها تمهيد ضروري لحل مشكلة عدم التوافق النفسي، بين ما نفعله في حياتنا اليومية وما نراه مثاليا أو نموذجياً، أي بين ما يرضي أنفسنا وما نظن أنه سيرضي الله. أميل إلى الاعتقاد بأننا نعيش حالة من انكار الذات، هو أقرب إلى شعور مفتعل بالتقصير أو القصور، يتمثل عادة في قولنا إن العيب ليس في الدين بل في المسلمين، وكذلك ما نراه من تشديد بعض الدعاة على التزام المسلمين بعرى الإسلام، مع أنهم ملتزمون في حقيقة الأمر. مثل هذه الدعوة وذلك الشعور بالقصور يقود إلى نزعات سلوكية متشددة أو مغالية أو اتهامية للذات والآخرين، أي – في نهاية المطاف – حالة عدم رضى عن الذات، ربما تقود الى تأزم نفسي او تشدد سلوكي. ضمن مشاهد عالمنا الحديث مما ترتب على الفكر المتشدد الإرهابي، هل يمكن اليوم طرح العلمانية بقوة أكبر متخلصة من الصورة السلبية التي ترافقها؟للعلمانية معان وتطبيقات متعددة. وربما لا يراها بعض الناس مناسبة. لكني أجد الجميع متفقاً على حياد الدولة في الامور الدينية. اعتقادي الشخصي أن سيادة القانون والمشاركة الشعبية في الحياة العامة وتأسيس نظام اجتماعي على ارضية العدالة، سوف تقود كلها الى تخفيف التوترات وتعقلن الانقسامات والاختلافات بين اطياف المجتمع.ما العمل في إطار المصالحة بين الدين والحداثة وواقعنا، والدين ومطالبات حقوق الإنسان المتفق عليها عالمياً؟كتبت كثيراً حول هذا الموضوع. من بينها كتاب يحمل اسم «الحداثة كحاجة دينية» خلاصته أن قيادة الدين للحياة في هذا العصر مشروطة بتبني مجتمع المؤمنين للحداثة في مختلف تجلياتها. الحداثة ليست ايديولوجيا مغلقة بل هي منتج بشري يكيفه الناس ويطورونه بحسب حاجاتهم في كل عصر. إنها نوع من التقاليد المتجددة، بديلة عن التقاليد التي عفا عليها الزمن. أما حقوق الإنسان فهي أصل من أصول الدين وضرورة من ضروراته، وهي من شروط الإنسانية السوية. المؤسف أن نقاشنا حولها تحول إلى جدل عقيم حول ملاءمتها لأحكام فقهية محددة، أو لمصدرها المعاصر أو كفاءة المنظمات التي تتبناها. كما أن بعضنا حولها إلى سلاح سياسي لمناكفة الدولة، بدل أن تكون أرضية لإقامة قيم اجتماعية تمجد قيمة «الحق». ولهذا فإن خطاب حقوق الإنسان ليس راسخا في مجتمعاتنا.في سطور- مفكر سعودي وباحث ديني وسياسي ومؤلف.- عضو في منظمة العفو الدولية في لندن. ساهم في العديد من الدورات العلمية في الفلسفة والاقتصاد وعلوم الإدارة وحقوق الإنسان والعديد من الدورات في القانون.- حاصل على:• ماجستير الفلسفة في العلوم الإسلامية من الجامعة الإسلامية العالمية في بريطانيا.• دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة وست مينيستر في بريطانيا.من مؤلفاته:• هوامش نقدية على واقعنا الثقافي.• البترول والسياسة في المملكة العربية السعودية.• نظرية السلطة في الفقه الشيعي: نقد لنظرية ولاية الفقيه.• الحداثة كحاجة دينية.• الديمقراطية في بلد مسلم.• ضد الاستبداد – دراسة في رسالة فقهية عن النظام الدستوري• حدود الديمقراطية الدينية• رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد• سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب).المرحلة المقبلة• ما زال الوطن العربي يمر بأكثر مراحله مأساوية، كيف تقرأ المرحلة المقبلة؟أجد من متابعة التطورات السلبية والإيجابية التي شهدتها المجتمعات العربية خلال نصف القرن الماضي، أن المسار التصاعدي هو الثابت، وأن وضعنا يتحسن ببطء. النكسات التي شهدناها في السنوات الأخيرة تحمل بعض المراقبين وعامة الناس على التشاؤم. لكن مراقبة المسار التاريخي على مدى زمني طويل يكشف أن هذه النكسات مؤقتة، وأن المسار العام ينحو للأفضل في جوانب عدة، من بينها مشاركة الجمهور في السياسة، الاقتصاد ومستوى المعيشة، التعليم، الصحة والأمل في الحياة. هذه كلها تطورات أساسية يمكن إثباتها من خلال مقارنات رقمية بين حالنا اليوم وما كنا عليه في الربع الثالث من القرن العشرين. التشاؤم والتفاؤل قد يكونان انطباعيين، وقد يكونان ثمرة لمراقبة علمية. وأرى – اعتماداً على النوع الثاني – أن وضعنا السيئ اليوم قد يكون مجرد انتكاسة مؤقتة، علينا أن نصبر عليها ونعالجها بالتي هي أحسن، لأنها تنطوي على ايجابيات مهمة، من بينها، كما ارى، اتساع الشرائح المهتمة بالشأن العام وازدياد مساحة الوعي بالذات والمحيط، وتحول مفاهيم القوة والتأثير. هذه ايجابيات كبيرة الأهمية تحدث بالتوازي مع النكسات الراهنة.