وقت الكتابة!

نشر في 17-09-2015
آخر تحديث 17-09-2015 | 00:01
 مسفر الدوسري إن الوقت الأنسب للكتابة كان ومازال موضع خلاف بين المصابين بها ولأولئك المهمومين بغمس قلوبهم في المحابر، فمنهم من يرى أن الصباح هو أنسب الأوقات للكتابة وأفضلها لما يتمتع به الذهن عادة من صفاء في هذا الوقت ولما يتمتع به البدن من نشاط والعقل من حيوية، بينما يفضّل آخرون الكتابة في الليل معلّلين ذلك بما يمنحه هذا الوقت لهم من هدوء وسكينة تجعلهم قادرين على خلق علاقة حميمة مع الأفكار، لتتناسل الكلمات بعيداً عن ضجيج الحياة وضوضائها المصاحب عادة للنهار.

أظن أن هناك فرقاً شاسعاً -بالنسبة لي على الأقل- بين الكتابة في الصباح والكتابة في الليل، فكلا الوقتين يخلع على الحروف شيئاً من عباءته، ويضفي عليها من روحه ورائحته، ويلوّن سماءها بما تحمله حقيبة ألوانه من أقلام.

الكتابة في الصباح بمثابة فتح نافذة تأملية من ذات الكاتب على الخارج، بينما الكتابة في الليل أشبه بفتح تلك النافذة التأملية على الداخل، أي على ذات الكاتب، مما يجعل الكتابة في الصباح سفراً في الحياة حيث الفضاء الأوسع، بكل ما يحتويه هذا الفضاء من ناس وكائنات ونسيج متشابك ومعقد من العلاقات بين عناصر الكون ومفرداته، واستقراء وتحليل لكل ما يدركه الكاتب بحواسه المادية، بينما الكتابة في الليل سفر الكاتب في ذاته، إذ يغلق الكاتب تلك النافذة المطلّة على الخارج ويفتح نافذة أخرى مطلة على أعماقه حيث الفضاء الأضيق الذي يتضمن في جوهره خلاصة ما ترشّح في وجدانه من تفاعل بينه وبين الفضاء الأوسع، لذا فإن الكتابة في الصباح في هذا الإطار كراسة الظلال، بينما الكتابة في الليل كراسة الخيال، في الصباح يحاول الكاتب رسم ظل للحياة كما يراها إذ يفرض المحسوس سطوته على فكر الكاتب، أما في الليل فهو يحاول رسم الحياة كما يتخيّلها إذ إن قناعاته ومعتقداته وآراءه هي التي تفرض سطوتها على الحياة!

إضافة لما سبق أظن أن توقيعا الصباح والليل مختلفان كل الاختلاف على الصفحات التي تُكتب في حضرة كل منهما، فالكتابة في الليل محاولة لطرد الوحشة عن وجه القمر، بينما الكتابة في الصباح محاولة لجمع أغاني العصافير، والكتابة في الليل إضاءة الشموع حول الأصابع، والكتابة في الصباح استدراج الندى لها، الكتابة في الليل تعويذة من خوف ما إما ظاهر أو مستتر، خوف قد لا يدرك الكاتب كنهه أو مصدره، ولكنه يبني من الكلمات ملجأ ودار أمان، بينما الكتابة في الصباح بناء قارب شراعي على مرفأ جزيرة بنيّة الإبحار في خمائل الزرقة، للكتابة في الليل طعم الحذر، ولها في الصباح نكهة الطيش، في الليل لها وقع تراتيل قدّاس، أما في الصباح فتشبه أناشيد الأطفال، الكتابة في الليل طائر يحتضن شجرته، والكتابة في الصباح طائر يودعها ليحتضنه الأفق، الكتابة في الليل تصغي لحكايات شهرزاد،أما الكتابة في الصباح فترافق السندباد، نعم هناك من يفضّل أوقاتاً دون أخرى في الكتابة، إلاّ أن الكتابة فعل يصنع الأوقات!

back to top