يحكي لي أحد الأصدقاء أنه في بداية الأزمة المالية العالمية سنة 2008، تعرض صغار المستثمرين، ممن لا يملكون المعلومات الحقيقية عن أحوال الشركات إبان تلك الفترة، لنكبات مالية كبيرة، وخسائر لم تكن بقدر وقوعهم ضحية لتصرفات ونصائح بعض كبار التنفيذيين الماليين، وبعض أهل الظهور الإعلامي المكثف، خاصة عندما كان ينصحونهم بالخروج من البورصة بدشاديشهم! دون بيع أسهمهم، لأن السوق سيتحسن لاحقاً ولا داعي للهلع والخوف (أغلب الذين لم يبيعوا في بداية الأزمة تكبدوا خسائر فادحة نتيجة تلك النصائح المغلوطة!) وكان هذا الصديق أحد المتداولين المواظبين، إذ يتذكر كيف أن احمرار المؤشر وصل حينئذ إلى الذروة وكأنها حفلة لانصهار الحديد!

Ad

يتذكر صاحبي بألم وحزن كيف ذابت مدخراته وتآكلت أمواله جراء الأزمة المخيفة، ويذكر أنه لم يكن وحده، بل الكثير من صغار المتداولين في ذلك الوقت الحزين من عمر البورصة.

لم يحزن صديقي على الخسارة قدر حزنه على حال البورصة وأداء وتصرفات ما يسمى بالمجاميع التي تقود السوق والتلاعب بأموال المتداولين لاسيما الصغار! وكيف كانت تصنع الإشاعة، ومن ثم الخبر والصفقات الوهمية والعقود المريبة لبعض الشركات دون إجراء قانوني رادع بحق تلك المجاميع التي سلبت أموال البسطاء في رابعة النهار وبلا حسيب حقيقي أو رقيب!

وحتى أوضح أكثر، فالمقصود هو القاعدة التي تقول "اشترِ على الإشاعة وبِع عند الخبر"!، وهي قاعدة لا تعتمد على أي حقيقة فنية أو تحليلية بقدر اعتمادها على "الفهلوة" وقد أضعها مع صفات النصب والاحتيال!

أما المقصود بالصفقات الوهمية فهي مرتبطة بالقاعدة السابقة الرديئة، إذ تخرج إشاعات داخل السوق (أحياناً تولد في الصفحات الاقتصادية لبعض الصحف) بأن استحواذاً سيكون على الشركة الفلانية أو صفقة ضخمة للشركة العلانية، وأثناءها يتم تصعيد سهم الشركة المقصودة أو تخفيض سعره (بحسب رغبة مطلق الإشاعة) نتيجة التدافع على عروض البيع أو الشراء، وبعدها وبعد أن تطير الطيور بأرزاقها يصدر بيان من أحد الأطراف المتأثرة بالإشاعة ينفي علمه بالصفقة أو العقد!

أما العقود المريبة لبعض الشركات فهي بطريقة أن شركةً ما تعلن إبرامها عقداً كبيراً مليونياً أو مليارياً (أحياناً)، ويرتفع سهم الشركة وتزيد وتيرة التداول على السهم، وعندما يتم التدقيق على الصفقة أو العقد يكتشف المتداول أن الشركة أخذت العقد أو الصفقة برأسمالها! أي لا ربح ولا خسارة، مجرد تحريك للسهم وكسب غير شريف من وراء ذلك!

تذكرت صديقي عندما أصبحت أخبار انسحابات الشركات من البورصة أخباراً دارجة ومعتادة، والحقيقة المهمة التي يجب أن نعلمها أن البورصة سوق عام مثله مثل أي مجال تجاري، وإن اختلفت الطريقة، وفيها تعرض أسهم الشركات بشكل معين، وفي هذا السوق يكون المتداول معرضاً للربح والخسارة، ولا اعتراض على ذلك، لأنهما من بديهيات العمل في التجارة.

لكن الذي يجب أن يكون أيضا في معلوم الجميع أن التجارة يجب أن تكون نزيهة وشريفة، وليست ساحة لمهاترات واتفاقات البيع والشراء المتلاعب به، وتصعيد الأسعار وتنزيلها حسب مزاج مجاميع تتحكم في مفاصل كثيرة بالسوق!

بالقياس على ما سبق، يفترض أن تكون المصداقية والمهنية والشفافية هي القواعد الأساسية الحقيقية لجلسات التداول وتحريك عجلة السوق، لذلك وعطفاً على ما سبق فليس مهماً أن يكون في البورصة أكثر من 200 شركة، إذ يكفي البورصة إدراج حتى لو 50 شركة فقط، تتمتع بالقواعد المهنية المرتبطة باحترام القوانين والشفافية في عملها والمصداقية في إعلاناتها، أي أن الكيف هو الأهم من الكم.

لذلك من أراد أن ينسحب فلينسحب ولا يصدع الرؤوس بأعذار واهية لا مكان لها على أرض الحقيقة، حتى وصل الأمر ببعض المجاميع التي يقال إنها مؤثرة إلى التلميح بانسحاب جميع شركاتها من البورصة، احتجاجاً على إجراءات هيئة سوق المال وإدارة البورصة.

وبعض المجاميع التي أعربت عن شكواها من عدة أمور هي وراء أسباب الهروب الاختياري من البورصة، كتراجع حجم السيولة وكثرة القوانين وتغييرها أيضا، فضلاً عن الرغبة في التخلص من رسوم السوق السنوية وانخفاض القيمة السوقية للأسهم دون الدفترية وعدم قدرة الشركات المتعثرة على الوفاء بالمتطلبات الرقابية، وغيرها من الأسباب التي هي في الظاهر صحيحة، لكنها بالتأكيد عكس ذلك، لأن كثيراً من تلك المجاميع لم تعد قادرة على التأقلم مع قيود هيئة سوق المال والرقابة الشديدة، لأنها تعودت على التلاعب بطرق معينة لم تعد في اﻹمكان، حيث إن الأمور حالياً ليست كالسابق، وإدارة البورصة تغيرت، و"قل للزمان ارجع يازمان"!

والحقيقة أن السوق هو المستفيد الحقيقي من خروج بعض هذه الشركات، أو ما يسمى بشركات العفن والنصب والاحتيال والاستيلاء على أموال المتداولين بشتى الوسائل المتجاوزة للقوانين وللأخلاقيات قبل كل ذلك، لذلك وبكل أريحية أقول لتلك الشركات أو المجاميع التي تريد ليّ ذراع هيئة سوق المال: ما طاح من النجوم أخف للسما!

البورصة التي لا تدار بالأخلاق والشفافية والمصداقية "لا عازة للبلد بها" وعدمها أفضل من وجودها، لأن سمعة البلد فوق أي اعتبار، وبالأصل الاقتصاد الكويتي مبني على أسس متينة وقواعد ثابتة لا يتأثر بنزول الأسهم أو صعودها ولا تؤثر عليه البورصة قيد أنملة، بل إن البورصة هي التي تستفيد من دخول الحكومة عبر المحفظة الوطنية، والمصلحة العامة للبورصة وللمستثمرين الحقيقيين، ولاسيما الصغار، خروج وانسحاب بعض الشركات التي تعتبر عبئا على السوق، ولا تتمتع إداراتها بالمصداقية ولا الشفافية المطلوبة.

بورصة الكويت سوق محترم يستحق الشركات المحترمة، لا المتلاعبة بالبيانات و"ارفع واكبس"! لذا أكرر ما ذكرته: من أراد الخروج من البورصة فالباب مفتوح، ويتسع لجمل، و"ما طاح من النجوم أخف للسما".