ألم تتعلم روسيا أي درس من أفغانستان؟
يعتبر الروس أنهم لم يخططوا لعملية برية طويلة في أفغانستان، تلك التي أودت بحياة مئات الآلاف وزعزعت الاقتصاد الروسي آنذاك، وبدل سماع صيحات النصر والتهليل في الاتحاد السوفياتي، تحولت الحرب إلى كارثة في العلاقات العامة أساءت أكثر إلى سمعة البلد، وقد تكون حملتها في سورية شبيهة بحملتها في أفغانستان.
دعا بوتين في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قادة العالم للانضمام إليه في ما اعتبره "ائتلاف معاصر مناهض لهتلر"، وكان سيبدأ بتوجيه ضربات جوية لمواقع المجاهدين المتطرفين التابعين لـ"داعش".تشير الرواية الرسمية إلى أن هدفه ليس حماية "العالم الروسي" (مَن ينتمون إلى الإثنية الروسية في الخارج)، التي بررت التدخل في أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، والقرم، وبدلاً من ذلك يبدو الهدف معاكساً بطرق عدة: حماية روسيا من التأثيرات الخارجية، وخصوصاً ممن يحاربون في صفوف "داعش" وقد يعودون ذات يوم إلى وطنهم ويشنون هجمات ضد روسيا.
منذ فصل الربيع، يناقش كبار المسؤولين في الحكومة بانتظام مفاجئ المخاطر التي تشكلها الآلاف المزعومة من متطوعي "داعش" الذين انضموا إلى هذا التنظيم من روسيا.ينشأ هنا سؤال بالغ الأهمية: هل يتطلب الخطر الذي تواجهه موسكو بسبب "خريجي داعش" الروس تكبد كلفة كبيرة لنقل سرب من الطائرات الحربية ومئات الجنود، وتنفيذ اليوم ضربات جوية ضد مواقع الإسلاميين الذين يقاتلون ضد الأسد على بعد آلاف الكيلومترات من روسيا؟ أم أن الأجهزة الاستخباراتية الخاصة تستطيع تحديد هويتهم واعتقالهم على الحدود الروسية، إن حاولوا العودة إلى وطنهم؟إذاً، لأي سبب آخر أرسلت روسيا طائرات حربية إلى اللاذقية؟ لمَ نحتاج إليها؟ لإنقاذ "القوة الشرعية" (كما تراها موسكو) لأحد حلفائها القلائل في الشرق الأوسط، الأسد الذي تتراجع قواته أمام ضغط مقاتلي "داعش" وغيره من المجموعات المعارضة؟ أم لمحاربة الثورات الشعبية التي انتشرت من كييف إلى الشرق الأوسط فشمال إفريقيا؟ أم ربما ترغب موسكو في إعادة روسيا إلى نادي "القوى العظمى" التي تحدد مصير العالم منذ عام 1945؟ولكن ثمة أيضاً احتمال آخر: تشكل الضربات الجوية محاولة للخروج من "المستنقع الأوكراني" والعقوبات الغربية التي جلبها عليها، ووفق هذا السيناريو يحاول الكرملين استغلال الأجندة العالمية الجديدة التي تشمل محاربة "داعش" والمساهمة في وقف تدفق اللاجئين، كوسيلة للعثور على مخرج جديد.ربما يرى بوتين في الخطة السورية وسيلة للخروج من العزلة، ولكن كان عليه أيضاً رفع المخاطر في هذه اللعبة، وكما اتضح في شهرَي أغسطس وسبتمبر، وخصوصاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تبدو سياسة الغرب لعزل روسيا بسبب أوكرانيا متأرجحة، كذلك برزت المسألة السورية خلال هذا اللقاء، فسرق القائد الروسي الأضواء وهمّش القضية الأوكرانية في الأجندة العالمية.بدأت الطائرات الحربية الروسية الهجوم في الحال، مما أثار حيرة الغرب والشرق بسبب تصميمها، ورغم التفاوض مع الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل، وغيرها من اللاعبين البارزين، أظهرت الأيام الأولى من العملية الجوية أن الكرملين لم يتوصل بعد إلى تسوية. نتيجة لذلك، سادت الشكوك في الحال حول محاولة موسكو استغلال الواقع الجديد بهدف مساعدة الأسد في القتال ضد "المعارضة المعتدلة"، فبدأت وسائل الإعلام تنقل تقارير عن ضربات جوية بعيدة عن المواقع الواقعة تحت سيطرة "داعش"، بما فيها مواقع الثوار الذين دربتهم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ورداً على هذه التقارير، حضنا وزير الخارجية الروسي على "عدم الإصغاء إلى وزارة الدفاع الأميركية في مسألة الضربات الروسية والاتصال بوزارة الدفاع في روسيا". مهما بدا هذا واضحاً، لم تنجح موسكو في إقناع الآخرين بصدقها: ففي بيان مشترك، طلبت الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، وقطر، والمملكة العربية السعودية من موسكو وقف الضربات الجوية ضد المقاتلين من المعارضة السورية وتركيز جهودها على تدمير "داعش".شاهِد التلفزيون الروسي وستلاحظ أنه يصب كل اهتمامه راهناً على سورية، فترى المشاركين في عدد من البرامج الحوارية الشهيرة، الذين راحوا سابقاً يتحدثون بصخب عن أوكرانيا، يمضون اليوم ساعات في مناقشة مسائل "داعش" والأسد، وتبدو هذه فرصة جيدة لتحويل الانتباه بعيداً عن القصص المستهلكة عن "المجلس العسكري الفاشي الحاكم" في كييف وتقديم رواية جديدة للمشاهدين، فقد أظهرت التجارب السابقة أن إلهاء الناس عن ارتفاع أسعار الطعام وتدني قيم الروبل يشكل خطوة جيدة في العلاقات العامة.في الوقت عينه، صدرت عن مركز ليفادا أبحاث اجتماعية مثيرة للاهتمام (أجريت بين 18 و21 سبتمبر، أي قبل خطاب الرئيس بوتين)، فيعتقد نحو نصف الروس أن سورية تشهد حرباً أهلية، في حين يظن 32% أنها حرب تُشن ضد نظام الأسد الشرعي بتحريض من الغرب، كذلك ذكر 58% أن "داعش" يمثل خطراً يهدد المنطقة والعالم، و41% أنهم سمعوا بأخبار المتطوعين الروس في صفوف "داعش" وأنهم يشعرون بالقلق حيال ذلك، مع أن 35% لم يسمعوا أي أمر عن متطوعين روس يقاتلون إلى جانب "داعش".أجاب 14% فقط من المشاركين في المسح أن على روسيا تأمين الدعم العسكري المباشر لنظام الأسد و69% عارضوه، في حين أيد 43% تأمين الأسلحة والاستشارات.لكن مزاج الناس قد يتبدل بسرعة كبيرة بمساعدة وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، فهذا ما حدث بين عامَي 2014 و2015 في صراع دومباس في شرق أوكرانيا، وهكذا خدمت حرب دومباس الهدف منها وشكلت وسيلة للتحدث عن "حرب صغيرة" جديدة وبعيدة تحقق روسيا فيها النصر، إلا أن الحروب في المناطق البعيدة قد تكون مختلفة.صحيح أن تفويض استخدام القوة المسلحة غير محدود، غير أن الكرملين يدّعي أنه لن يلجأ إليها إلا لتوجيه الضربات، وأنه لا يخطط للغوص "مباشرة" في القتال على الأرض، ولكن على الروس أولاً أن يتذكروا أن الحرب في فيتنام دامت 18 سنة، وبعد سنوات قليلة من فيتنام، تفاعلت موسكو مع "طلب" كابول المساعدة لإعادة إرساء النظام في أفغانستان، ويشبه هذا الطلب الذي قدمته أخيراً "السلطات الشرعية" في سورية.لم يخطط أحد حينذاك لعملية برية طويلة في أفغانستان أو يتخيل بالتأكيد أنها قد تنتهي بالفشل، فدامت "تلك الحرب الصغيرة السهلة" 10 سنوات، مما أودى بحياة مئات الآلاف وزعزع الاقتصاد، وبدل سماع صيحات النصر والتهليل في الاتحاد السوفياتي، تحولت الحرب إلى كارثة في العلاقات العامة أساءت أكثر إلى سمعة البلد، ولعل هذه النقطة الأهم اليوم بالنسبة إلى الكرملين.إن حاولنا استخلاص الدروس من أخطاء ماضينا، تصعب علينا رؤية كيف ستكون هذه المغامرة العسكرية الأخيرة في سورية، مع ما تشمله من مخاطر كبيرة، "حرباً صغيرة سهلة" قد تقلب مجريات الأحداث بما يخدم مصالح روسيا على الأمد الطويل.* بيتر كوزلوف