ما قل ودل: طلعت حرب الظاهرة الإنسانية التي لن تموت (2 من 2)

نشر في 06-09-2015
آخر تحديث 06-09-2015 | 00:05
كان طلعت حرب سياسياً نافذ البصيرة، لذا رد نفسه عن أن تستهلكه السياسة الحزبية، فرغم مواهبه التنظيمية واطلاعه الواسع على شؤون مصر، وصلته الوثيقة بكثير من كبار الرجال، فضلاً عن قدرته القلمية التي تضعه في الصف الأول من كتاب أمته، اختار طريق المال والاقتصاد، فكان البنك، ولم يكن البنك وحده ليشبع أطماعه الروحية فكانت الشركات.
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقالي الأحد الماضي، على هذه الصفحة تحت عنوان: "طلعت حرب واستشراق مستقبل مصر على أطلال الحاضر" أسطورة طلعت حرب بمناسبة إحياء ذكرى رحيله الرابعة والسبعين، حيث صعدت روحه إلى بارئها يوم 21 أغسطس سنة 1941، وافتتاح المجرى الجديد لقناة السويس في السادس من أغسطس الماضي.

طلعت حرب بحث في العظمة

وفي هذا السياق، استعدت في ذاكرتي كتاباً ظل قابعاً في مكتبتي مدة طويلة، كتبه فتحي رضوان، المناضل الوطني، الذي كان يترأس اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني، الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل، بعد سنوات النضال التي أضاء فيها شمعة الوطنية لتبدد بنورها ظلمات ومظالم عصره، فلقد تفتحت عيناه على مصر، وهي تحت نير الاحتلال البريطاني وفلول الحكم العثماني، الذي كان يرتدي عباءة الخلافة الإسلامية، ورحل قبل أن يحصد ثمار نضاله عن أربعة وثلاثين ربيعاً من عمره، وعنوان الكتاب "طلعت حرب بحث في العظمة"، قسمه الكاتب إلى أحد عشر فصلاً، نورد في هذا المقال مقتطفات من بعضها.

أمة في بنك

وهو عنوان الفصل الأول من الكتاب، الذي يذكر فيه المؤلف تاريخ فكرة إنشاء بنك وطني، تاقت إليه نفوس المصريين، وكانوا يتوجهون إليه بقلوبهم كلما ضاقت أمامهم السبل، واشتد عليهم ضغط الأجنبي أو استحكمت حلقات الأزمة الاقتصادية، ولكن القدر كان قد ادخره لرجل مثابر ومؤمن يجمع بين بساطة المظهر، وخفوت الصوت، وبطء الحركة في الظاهر، والدهاء وحسن الحيلة، وسعة الاطلاع، واتقاد الخيال في الواقع، ذلك هو طلعت حرب.

وكيف ضرب عرض الحائط بتقرير قدم إليه، والبنك يخطو أولى خطواته، يرجع بطءَ ورود الودائع في البنك إلى عدم استخدامه للغة الأجنبية ولموظفين أجانب، وعدم جعل أسهم البنك ملكاً لحاملها يتداولها المصريون والأجانب، فقد كانت أسهماً اسمية يملكها مصريون... فقد رد على ذلك بأن الله يحب مصر حقاً، وقد أراد أن يكون فيها بنك خالص لمصر والمصريين، والله فعال لما يريد.

دولة طلعت حرب

وهو عنوان الفصل الثاني من الكتاب الذي استهله الكاتب بأنه كان في وسع طلعت حرب أن يضع برنامج حزب، وخطة عمل لهذا الحزب، وكان سيجد لذة ومتعة، في أن يشرف على أجهزة الدعاية في هذا الحزب، وأن يتولى توجيه - إن لم يكن تحرير- صحيفة الحزب.

ولكن طلعت حرب، كان سياسياً نافذ البصيرة، لذلك رد نفسه عن أن تستهلكه السياسة الحزبية، فرغم مواهبه التنظيمية واطلاعه الواسع على شؤون مصر، وعلى صلته الوثيقة بكثير من كبار الرجال، فضلاً عن قدرته القلمية التي تضعه في الصف الأول من كتاب أمته، اختار طريق المال والاقتصاد، فكان البنك، ولم يكن البنك وحده ليشبع أطماعه الروحية فكانت الشركات.

ويقول طلعت حرب عن شركات بنك مصر في الربط بين هذه الشركات، في خطاب له ألقاه بعد خمسة عشر عاماً من إنشاء البنك: "وقد وفقنا الله في ذلك، فكان لنا في هذه الفترة القصيرة - فترة الخمسة عشر عاماً- أن ركز البنك، في السهل والجبل، وفي الشرق والغرب، وعلى الماء ومتن الهواء، علمَ البلاد... يخفق تحت الشمس باسم بنك مصر وشركات بنك مصر، بل باسم مصر كلها، أو بعضها، بعد أن طال احتجابه بين الظلام عهداً طويلاً".

ويستطرد: "لعلكم لاحظتم ونحن نسرد لكم شركات مصر، أن هذه الشركات تكون حلقات متصلة بعضها ببعض، دون أن يكون تأسيسها اعتباطاً فالمطبعة والمكتبة، والشركات المساهمة لصنع الورق حلقة، وللقطن حلقة، تتمثل في الحلج والنقل، والتصدير، والتأمين، والغزل والنسج، ويتصل أيضاً بحلقة القطن حلقات الحرير والكتان، ومن النقل تكونت حلقة بين النقل في النهر والنقل في البحر والنقل في الجو، كما اتصل بهذه الحلقة مسألة السياحة، ومن اتصالنا بالبحر، نشأت حلقة أخرى، هي حلقة السمك، وما خرج منها من صناعة أزرار الصدف، ثم الحلقة التي تربط جميع الحلقات، وتتبع كل ما تهم إذاعته، ونعني بها حلقة السينما والدعاية، ثم إن لهذه الشركات، التي مر ذكرها، منتجات طيبة، يصح بل يجب أن تكون في متناول جميع المصريين وغيرهم، ففكر بعض كبار المصريين في ذلك، واتفقت كلمتهم على تأسيس شركة بيع المصنوعات".

ويرد على منتقديه من أعداء النجاح الذين استنكروا أن يكون لبنك ناشئ، وبنك تجاري، أي بنك ودائع، أن يكون له كل هذه الشركات الصناعية المتعددة، وأن يتم إنشاؤها في هذه الفترة القصيرة، وقد أدرك طلعت حرب أن هذه الكثرة من الشركات، وهذه السرعة في الإنشاء، مما يتوجه إليه النقد والتشكيك في سلامة هذه السياسة، فيقول لهم: "نعم أيها السادة لن يكون بنك مصر، مجرد بنك كالبنوك الأجنبية الكثيرة العدد، في البلد، وهي بنوك تستوحي في الغالب سياستها من أمهاتها في الخارج".

ولقد رأى بنك مصر العبء الذي تركته هذه البنوك فادحاً وثقيلاً، ولكنه لم يتردد في أن يحمله، فحمله وحدة بشجاعة وأمانة معتمداً على الله الذي يجزي اليد الصالحة بما هي أهل له، والذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

ويعقب المؤلف فتحي رضوان، وهو المناضل الوطني، الذي اختارته ثورة 23 يوليه، واختاره الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، من بين كل رجال الأحزاب ليكون معاوناً له في أولى خطواته في حكم مصر بعد نجاح الثورة، وزيراً للإرشاد القومي، وليبقى معه مدة 7 أشهر، فيقول: "وقد كانت شركات الغزل والنسيج في المحلة وكفر الدوار، عملاً اقتصادياً ناجحاً في غاية النجاح، وقد أدت خدمات هائلة للمستهلك المصري، في فترة الحرب العالمية الثانية، واطّرد إنتاجها في التحسن والتوسع، حتى أصبحت مصنوعاتها قادرة على منافسة إنتاج أعظم البلاد الصناعية كسويسرا والولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا.

ويمكن أن يقال إن الشركات التي يتصل نشاطها بالقطن كشركات حلجه أو تصديره والاتجار فيه في الداخل أو الخارج، كانت أيضا، شركات ناجحة.

أما شركات الملاحة والطيران التمثيل والسينما، فقد كانت بذوراً، ألقيت بيد طلعت حرب، لتضع الحكومة المصرية أمام الأمرالواقع، ولتحملها في المستقبل القريب أو البعيد، على النزول إلى هذا الميدان الذي تستلزم كرامة الأمة والدولة معاً النهوضَ بتبعاته، وأداء تكاليفه مهما كانت باهظة، فإن لمكانة الوطن مقتضيات لا سبيل إلى الفرار منها.

back to top