حكى الروائي الراحل جمال الغيطاني خلال ندوة «علاقة الأدب المصري بفرنسا والأدب العربي» بمعهد اللغة والحضارة العربية منذ عدة سنوات، والتي تحدث فيها عن روايته الأشهر «الزيني بركات»، باعتبارها أولى رواياته التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية، كيف كتب روايته وما السبب الذي جعله يكتبها.

Ad

يقول الراحل الكبير عن روايته الأشهر: «جاءت «الزيني بركات» نتيجة لعوامل عدة أهمها تجربة معاناة القهر البوليسي في مصر خلال الستينيات، فقد كانت هناك تجربة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وأحلام البسطاء يقودها زعيم كبير هو جمال عبدالناصر، ولكن كان مقتل هذه التجربة هو الأسلوب الذي تعاملت به مع الديمقراطية، وأحيانا كنا نحجم عن الحديث بهذا الشكل، لأن هذه التجربة بعد انتهائها تعرضت ولاتزال تتعرض لهجوم حاد من خصوم العدالة الاجتماعية.

واستكمل الغيطاني كلامه أثناء الندوة: «كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر وبقراءة هذا التاريخ، خاصة الفترة المملوكية التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الستينيات»، مؤكدا أنه طالع مراجع شهود العيان الذين عاشوا هذه الفترة، فالألم الإنساني واحد والشعور بالحزن هو نفسه الذي كان يعبر عنه المصري القديم أو البابلي القديم.

ويقول الغيطاني: «عندما بدأت الكتابة في عام 1959، مررت بمرحلة بحث ومرحلة قلق إلى أن اهتديت إلى هذه الأساليب الموجودة في الكتابة القديمة والمهجورة، التي لم يعد أحد يتعامل معها، وشعرت أنها تمنحني حرية أكثر في التعبير، وجاءت «الزيني بركات»، وهو شخصية حقيقية موجودة في كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لمحمد بن إياس الحنفي المصري، وهذا الكتاب مرجع مهم جدا، ونشأت بيني وبين ابن إياس علاقة حميمة كنت أكاد أتمثله.

نائب السلطان

ويستكمل الراحل كواليس كتابة روايته الأشهر قائلا: «قرأت هذا الكتاب وعايشت شخصية الزيني بركات وشغلت بها، فالزيني كان ميقاتيا يحدد مواقيت الصلاة في ركب الحج، وهو متجه إلى مكة ثم بدأ رحلة الصعود إلى أن أصبح نائبا للسلطان.

وعندما خرج السلطان الغوري كي يتصدى للعثمانيين، كان الزيني بركات أهم شخصيات الدولة، وعندما استولى سليم العثماني على مصر، وهزمت السلطنة المملوكية، واستشهد السلطان قنصوه الغوري وتبدل الأمر تماما، أصبح الزيني بركات أيضا هو الشخصية الأولى في الدولة المصرية، وينتهي كتاب ابن إياس بسطور يقول فيها: «في سنة 926 هجرية، بعد أربع سنوات من الغزو العثماني، مازال نجم الزيني بركات في طلوع وظرفه في صعود، ولله الأمر من قبل ومن بعد».

ويوضح الغيطاني أن هذه الشخصية لفتت نظره وتطابقت مع شخصيات أخرى موجودة في الواقع، فلم يجرؤ على مواجهته، لذا فالزيني بركات لا يظهر في الرواية وجها لوجه، نحن نرى ردود أفعاله ولا نراه هو مباشرة إلا في مشهد واحد فقط، عندما يقابل زكريا بن رابض.

وذكر الكاتب الراحل أنه فوجئ بأن موضوع القهر والحرية يفرض نفسه بدلا من موضوع شخصية الانتهازي، وأصبحت الرواية تدور حول «البصاصين»، وهذه المهنة هي تعبير منحوت ليس له أصل في الواقع المصري، واخترت أن أصف به عمل الذين يقومون بـ»البص»، مشيرا إلى أن صديقه أندريه ريمون، عندما قرأ الرواية ـ وهو متخصص في العصر العثماني ـ قال له إنه لم يجد خطأ تاريخيا واحدا، فمثلا لا يمكن أن نجد شخصا  يشرب القهوة، لأن القهوة كانت في ذلك الوقت، جديدة في مصر، وكان مختلفاً عليها، هل هي حلال أم حرام؟ والشاي لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر. ويحكي الغيطاني كيف كان يستعين بالخرائط أثناء كتابته الرواية، فيقول: «خريطة القاهرة كانت أمامي وأنا أكتب الرواية، مثلا عندما يتحرك السلطان من ميدان الرميلة أو من ميدان القلعة، ويشق موكبه شوارع القاهرة حتى ميدان النصر بأي طرق يمر؟ شكل العمامة مثلا: عمامة السلطان تختلف عن عمامة الشيخ عن عمامة المحتسب، والأزياء .. كل هذه التفاصيل درستها بدقة، ثم طرحتها جانبا، وبدأت أكتب الرواية سنة 1969 وانتهيت منها في عام 1970.