وعادت الصباحات المتوشّحة برداء الندى، وعادت الشمس لممارسة "الغمّيضة" لعبتها الأثيرة والمفضلة مع الغيوم، وعادت أبخرة فناجين القهوة تجنّح برائحتها المميزة ممتزجة بأبخرة الكلمات الخارجة من الأفواه، والموسيقى الصباحية المحرضة للعصافير على الجلوس في المقاعد المخصصة لها في الفضاء أو على أغصان الشجر والانضمام إلى جوقة الفرقة الموسيقية والأوركسترا التي تعزف نغم الحياة، وعاد المطر يغسل كعادته في كل عام أوراق الأشجار وجذوعها وكأنما تلك ممارسة للمطر ضمن طقس ديني بينه وبين الألوان اتخذها عادة سنوية له في مثل هذا الوقت من كل عام.

Ad

رجعت الشتوية وعاد الصوف يغزل دفئه الشّهي على الأجساد، والأغطية الوثيرة تطرّز غوايتها "بدانتيل" الرغبة بكسب مزيد من الوقت في أحضان السرير، وزغب أحلام ليلة البارحة الذي يثقل الأهداب حتى لا تكاد تستطيع أن تشرّع  أبوابها من الخدر، رجعت الشتوية، وعاد جمر المواقد يشعل السهر في حطب الحكايات، وكلما أصبحت حكاية من الحكايات رماداً، استنجد الموقد بحكاية أخرى تضيء المساء وتدفئ أطرافه قبل أن يسري البرد بها، على إيقاع دورة أقداح الشاي والمشروبات الساخنة الأخرى.

رجعت الشتوية... وعادت حميمية المواعيد، وحكايات العشاق التي تضع الشال الكشميري على مناكبها ليس بغرض الدفء ولكن بغرض الزينة والمباهاة بها.

ضمن رحلة المواسم الأبدية، ها هي الشتوية تعود من سفرها لتحط رحالها من جديد بيننا، وها هي قافلتها محمّلة بالهدايا التي اعتدنا انتظارها بكل شوق، وتفتح الشتوية حقائبها بينما نحن ملتفون حولها كالأطفال الذين يلتفّون حول شجرة "الكريسماس"في ليلة الميلاد، ثم تنادينا فرداً فرداً بالاسم بعد أن تتخذ مكانها بيننا لتناول كلاًّ منا "صُوغته" التي عادت بها إليه بعد غياب، تعطي فلاناً قطعة من الحنين، وفلاناً أغنية من قطن الذكرى، وفلاناً قصيدة عصيّة على الرماد، وفلاناً تعويذة تطرد الوحشة في ليالي الشتاء الطويلة، وفلاناً غيمة لا تجف، وفلاناً برَكة مواعيد، وفلاناً "بشتاً" معطّراً برائحة حكاية منسيّة، وهكذا، وبعد أن يتسلّم كل منّا "صوغته" نقضي ما تبقى من المساء بالفرح بهدايانا والتعليقات الطريفة على هدايا الآخرين، أما أنا فأكثر الفرحين بما أهدته الشتوية لي، إذ كنتِ أنتِ هديتي التي أنتظرها كل شتاء والتي ما خيِّب الشتاء أمنياتي بإحضارها لي منذ سنوات، منذ سنوات وأنا في نهاية شتاء كل عام أبدأ بغزل أمانيّ الخاصة بأن تكوني لي في الشتاء القادم، وأن لا أُحرم حنان قلبك، وأن لا أجد نفسي واقفاً أمام باب دفئك متسولاً قطعة صوف من عطفك، أو ظل رداء من أغاني عطاياك، أبدأ في نهاية كل شتاء من كل عام بكتابة رسائل الاستعطاف لمقام الشتوية السامي بأن لا تنسى هديتي التي هي أنت عند عودتها القادمة، وألا تترك قلبي في العراء البارد ممرّاً مكتظّاً برياح الشوق التي لا تبارح خيمة الحنايا، منذ سنوات وأنا أقضي رحلة الصيف بالنداءات الموشاة بالرجاء للشتوية بألاّ تعود إلاّ وهي ممسكة بترف يدك لتقدّمك "صُوغة" لقلبي لا أريد سواها في كل مواسم العمر.