التلاعب في السوق يتحول إلى العالمية
كلما ازداد اعتمادنا على الأسواق، أصبحنا أقل ثقة بها، وغنيّ عن القول إن هذا بعيد كل البعد عن «اليد الخفية» التي تستند إليها الأسواق الفعّالة، ونحن نزعم، كما فعل آدم سميث، أن الأسواق غير الشخصية تضمن التوزيع الأكثر كفاءة لرأس المال النادر؛ ولكن ما نريده حقاً هو أسواق لا تعمل إلا وفقاً لشروطنا.
لقد أصبح التلاعب في السوق من الإجراءات التشغيلية القياسية في الدوائر السياسية في مختلف أنحاء العالم، والآن تتجه كل الأعين صوب المحاولات التي تبذلها الصين للتعامل مع انهيار فقاعة الأسهم الكبرى، ولكن الجهود التي تبذلها السلطات الصينية ليست فريدة من نوعها، فالاقتصادات الرائدة في الغرب تفعل الشيء نفسه تقريبا، لكنها تُلبِس التلاعب ملابس مختلفة.ولنتأمل هنا التيسير الكمي، الذي استُخدِم لأول مرة في اليابان في العقد الأول من القرن الحالي، ثم في الولايات المتحدة بعد عام 2008، ثم في اليابان مرة أخرى بداية من عام 2013، والآن في أوروبا، وفي كل هذه الحالات، كان التيسير الكمي في الأساس محاولة عدوانية للتلاعب في أسعار الأصول، ويعمل التيسير الكمي في المقام الأول من خلال مشتريات البنوك المركزية المباشرة من السندات المالية السيادية الطويلة الأجل، وبالتالي خفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل، وهذا بدوره يجعل الأسهم أكثر جاذبية.وسواء كان التيسير الكمي كشكل من أشكال التلاعب في السوق قد حقق هدفه- توفير الحوافز للاقتصادات التي مزقتها الأزمة والتي تعتمد على الأصول- أو لم يحققه فهو أمر مطروح للمناقشة: فقد كان التعافي الحالي في العالم المتقدم هزيلاً على نحو غير عادي على أي حال، ولكن هذا لم يمنع السلطات من المحاولة.وتسوق البنوك المركزية في دفاعها عن التيسير الكمي حجة لا أساس لها مفادها أن الأمور كانت ستصبح أسوأ كثيراً لو لم تنفذ برامج التيسير الكمي، ولكن في ظل مخاطر عدم الاستقرار المالي الجديدة التي تفرضها الأسواق المالية المتلاعب بها التي أصبحت الآن سطحية فإن المداولات لا تزال جارية حول هذه النقطة أيضا.ولا تقل الجهود التي تبذلها الصين في التلاعب في السوق سفورا، ففي الاستجابة لانخفاض مؤشر سي إس آي 300 بنسبة 31% (المؤشر المركب للأسهم في سوقي شنغهاي وشنتشن للأوراق المالية) عن الذروة التي بلغها في الثاني عشر من يونيو، في أعقاب الارتفاع بنسبة 145% في الأشهر الاثني عشر السابقة، تحركت الأجهزة التنظيمية الصينية بقوة لاحتواء الضرر.والآن تدرس السلطات الصينية كل الخيارات المتاحة، بما في ذلك مساندة سوق الأسهم بدعم من الحكومة بقيمة 480 مليار دولار أميركي برعاية شركة الصين لتمويل الأوراق المالية، ومجمع بقيمة 19 مليار دولار من شركات السمسرة المحلية الكبرى، والوعد المفتوح من بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) باستخدام ميزانيته العمومية لدعم أسعار الأسهم. وعلاوة على ذلك، تم تعليق تداول نحو 50% من الأسهم المسجلة (أكثر من 1400 من أصل 2800 سهما).وخلافاً للتلاعب في السوق باستخدام التيسير الكمي في الغرب، والذي يعمل بطريقة غير مباشرة من خلال علميات ضخ السيولة من البنوك المركزية، فإن النسخة الصينية موجهة بشكل أكثر مباشرة نحو سوق تمر بمحنة، في هذه الحالة سوق الأسهم. والأمر ذو الدلالة هنا هو أن التيسير الكمي نهج تفاعلي إلى حد كبير، يهدف إلى تنشيط الأسواق والاقتصادات المنكوبة بعد انهيارها، أما النهج الصيني الأكثر استباقية فيعادل محاولة التقاط سكين ساقطة؛ إيقاف هبوط سوق تشهد سقوطاً حرا.وهناك العديد من الفوارق الأخرى الجديرة بالملاحظة بين تلاعب الصين في الأسواق وما نراه في الغرب، فأولاً تبدو السلطات الصينية أقل تركيزاً على المخاطر الجهازية التي يتعرض لها الاقتصاد الحقيقي، وهو أمر منطقي لأن تأثيرات الثروة أصغر بشكل كبير في الصين، حيث يمثل الاستهلاك الخاص نحو 36% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، بما لا يزيد على نصف النسبة في الاقتصادات الأكثر اعتماداً على الثروات مثل الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، كان قدر كبير من الارتفاع الحاد الذي سجلته قيم الأسهم الصينية قصير الأمد للغاية، فكان ما يقرب من 90% من ارتفاع مؤشر سي إس آي 300 لمدة 12 شهراً متركزاً في الأشهر السبعة التالية لبداية تدفقات الاستثمار العابر للحدود عن طريق ما يسمى ربط سوقي شنغهاي وهونغ كونغ في نوفمبر 2014، ونتيجة لهذا كان الوقت المتاح للمضاربين، للسماح بالمكاسب الرأسمالية بالاستقرار البطيء وتخليف أثر دائم على توقعات أساليب الحياة، ضئيلاً للغاية.وثانيا، في الغرب، كانت إصلاحات ما بعد الأزمة تكتيكية عادة، وكانت تستهدف إصلاح العيوب في الأسواق المستقرة، بدلاً من تعزيز أسواق جديدة، وفي الصين، على النقيض من ذلك، كانت إصلاحات ما بعد الفقاعات ذات تركيز أكثر استراتيجية، وذلك لأن ضائقة سوق الأسهم تخلف تأثيرات مهمة تتصل بإصلاحات الحكومة لأسواق رأس المال، والتي تعتبر شديدة الأهمية لاستراتيجيتها الرامية إلى إعادة التوازن البنيوي، وبعد فترة طويلة كانت فيها مثقلة بنظام الوساطة الائتمانية القائم على البنوك، أصبح تطوير أسواق الأسهم والسندات الآمنة والمستقرة بمثابة أولوية قصوى في الجهود التي تبذلها الصين لتعزيز منصة أكثر تنوعاً لتمويل الأعمال، ويدعو انهيار فقاعة الأسهم إلى التساؤل بجدية حول جدوى هذه الجهود.وأخيرا، من خلال التأكيد على الإصلاح التنظيمي، وبالتالي الحفاظ على سعر الفائدة القياسي أعلى كثيراً من حد الصِفر البغيض، أصبح بنك الشعب الصيني في وضع أفضل من غيره من البنوك المركزية للحفاظ على السيطرة على السياسة النقدية وعدم الانزلاق إلى فخ توفير السيولة بلا نهاية، الذي أدمنته الأسواق السطحية، وعلى النقيض من الغرب، تعمل التصرفات الموجهة تبعاً للسهم على التقليل من خطر العدوى المالية الناجم عن انتشار السيولة بشكل غير مباشر إلى أسواق الأصول الأخرى.ومع استمرار إغلاق قسم كبير من سوق الأسهم المحلية في الصين، من الصعب أن نعرف متى تصبح غرائز التصحيح الحيوانية مستنفدة، ورغم أن الحكومة تمكنت من تجميع قوة نيران كبيرة للحد من تفكيك فقاعة مذهلة، فإن الأعباء المتخلفة عن الطلب على المضاربة العالية الاستدانة محبطة للغاية، والواقع أن هامش تمويل مشتريات الأسهم في الأشهر الاثني عشر التي انتهت في يونيو تضاعف إلى ما يقرب من ثلاثة أمثاله كنسبة من رأسمال أسواق الأسهم المحلية القابلة للتداول.ورغم ارتداد الأسهم الصينية في البداية بنسبة 14% أعلى من المستوى الأدنى الذي بلغته في الثامن من يوليو، فإن هبوطها بنسبة 8.5% في السابع والعشرين من يوليو يوحي بأن ذلك ربما كان راحة مؤقتة، وتؤكد الدعوات المحتملة لتقليص الهامش القسري للديون على احتمال المزيد من التدهور بمجرد استئناف التداول الكامل.على نطاق أوسع، وكما هي الحال في اليابان والولايات المتحدة وأوروبا، ليس من الممكن أن نخطئ الأسباب التي دفعت الصين إلى التلاعب: المخاطر المتمثلة بنشوء فقاعات كبيرة الحجم، ومرة أخرى، كان القائمون على التنظيم وصناع السياسات- ناهيك عن الزعماء السياسيين- غافلين عن تجاوزات السوق، وفي عالم تحكمه العولمة حيث يخضع دخل العمل إلى ضغوط مستمرة، فإن أنشودة أسواق الأصول الفاتنة باعتبارها إكسيراً للنمو أصبحت أكثر إغراءً للجسد السياسي للدولة من أن تقاوَم.وتمثل فقاعات المضاربة التجلي المرئي لهذا الإغراء، فمع انفجار الفقاعات- وهي تنفجر دائما- ينكشف الازدهار الزائف وتصبح التكتيكات الدفاعية المتمثلة بالتلاعب في السوق عاجلة ومنطقية في الظاهر.وهنا تكمن المفارقة الكبرى: فكلما ازداد اعتمادنا على الأسواق، أصبحنا أقل ثقة بها، وغنيّ عن القول إن هذا بعيد كل البعد عن "اليد الخفية" التي تستند إليها الأسواق الفعّالة، ونحن نزعم، كما فعل آدم سميث، أن الأسواق غير الشخصية تضمن التوزيع الأكثر كفاءة لرأس المال النادر؛ ولكن ما نريده حقاً هو أسواق لا تعمل إلا وفقاً لشروطنا.*عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لبنك مورغان ستانلي في آسيا، ومؤلف كتاب «انعدام التوازن: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»