تلقيت عدة مكالمات هاتفية تشكرني على مقال الأسبوع الماضي، وهو «أيام العمر المسروقة»، واكتشفت أن هناك الكثير ممن يوافقونني على ما طرحته في مقالي السابق المتعلق بانصراف الناس عن حياتهم وتعلقهم بوسائل الـ «سوشال ميديا» التي تسرق العيش من الحياة الحقيقية لتضيعها في عالم وهمي افتراضي.

Ad

وهبة وسائل الـ «سوشال ميديا» في الكويت وانتشارها الاستهلاكي الكبير ليس بجديد عليها، فالهبات هذه أمرها معتاد جداً في المجتمع الكويتي منذ القدم، لكنها كانت محدودة بسبب متانة العادات والتقاليد التي تتحكم بمنعها وانتشارها، إلا إذا كانت مفيدة وضرورية لحياة الناس وتقدمهم، وكان مفهوم العيب والحياء والخجل المتعارف عليه أقوى من القانون ويحكم حياة الناس ويقيد تصرفاتهم بالعرف، وهو الأساس الذي تبنى عليه وتحدد به علاقاتهم وتصرفاتهم، وكان صغر المجتمع ومحدوديته وعدم اختلاطه بالآخرين جعلهم أكثر تحفظاً وأكثر انغلاقاً وأشد تمسكاً بالأخلاق المحافظة المتزمتة والمتزنة، وكانت حياة الناس كلها أسراراً لا تتعدى حدود منزلهم إن لم يكن غرف نومهم، والأسرار ليست بمعنى الأمر الخطير السري الذي يُخاف منه ومن انتشاره، بل هو أي شيء يتعلق بالحياة مهما صغر أو كبر يُعتبر سراً بسبب الخوف من العيب والحياء.

ومع ظهور البترول وتمدد المدينة واتساعها وزيادة عدد سكانها بسبب الوافدين من كل الدول المختلفة، سواء كانت عربية أم آسيوية أم غربية، بدأت تدخل عادات وتقاليد وتصرفات مختلفة، اخترقت وخلخلت النظام الصارم لمفهوم العرف المتحكم بعادات وأخلاق المجتمع الكويتي، وبدأت العائلات تعتاد على التصرفات المخالفة لها، مع المحافظة على بقاء مسافة تفصلها عنها، لكن مع التقبل الجديد هذا لم يكن السلوك المستورد يخصهم أو يخترقهم، ويبقى يحق للأجنبي ما لا يحق لهم، وتبقى لحياتهم عاداتها وتقاليدها التي تميز الناس «السنعة»، أي التي لها تقاليد وأخلاق خاضعة لأعراف العائلات المحافظة الأصيلة وليست متأثرة بأخلاق «اللفو»، أي الدخلاء عليهم.

وبدأ انفتاح الناس يزداد مع مرور الوقت، لكن مع بقاء العائلات وتمسكها بالسنع، أي المحافظة على عاداتها وتقاليدها كتميز أرستقراطي عن غيرها من العائلات التي انفتحت على الغير واختلطت وذابت معهم، كما استمرت المحافظة على العيب والحياء و»السرانية» كأساس وخصوصية مميزة لها عن غيرها، أصلاً كلمة «المساسر» هي اختراع كويتي، ويعني أن تسر بسر بسرية، وهذه الكلمة من أجمل الكلمات التي اندثرت من المجتمع الكويتي الآن بعد الانفتاح العظيم هذا، ولم أجد ما يماثلها من اختصار لجملة في كلمة واحدة، وأتذكر قول صديقة لي تزوجت في الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت من تلك الأسر التي انفتحت في علاقاتها الاجتماعية على عكس عائلة زوجها، فقالت لي إنها دخلت بيت المساسر الذي كانت تعتقد أنه ضدها، لكنها مع الوقت اكتشفت أنه أبسط من ذلك بكثير، ربما كان المساسر لأمر الخدامة بتقديم عصير للضيوف مثلاً، هذه الحكاية لم يعد لها مكان مع انتشار وسائل السوشال ميديا، وبفضلها انتهى زمن التمسك بالسنع، وباتت الأغلبية تجاهر بانفتاحها على العالم كله، ولم يعد للسر وللمساسر أي مكان في حياتها الجديدة.

الجيد في مجتمع الهبة هو اتباع الكثير الهرولة خلفها، وحين تكون الهبة مفيدة يكون انتشارها السريع مثل اللهب بالفعل عمل عظيم يعود على الناس والمجتمع بالفائدة، مثل انتشار المستوصفات والمستشفيات وقاعات الأعراس والاحتفالات، والفزعة عند أي موقف يضر بالكويت، والمساعدات في الخدمات الاجتماعية والتطوعية والتعليمية والتبرعات بكل أشكالها والنوادي الصحية، وآخرها انتشار هذه الثلاجات في المناطق السكنية لوضع الطعام للمحتاجين من العمال والفقراء.

هذه هبات مفيدة واتباعها يعود على المجتمع وناسه بالخير الكثير، ويزيد من ترابط الرحمة والتفاعل بينهم، وهناك البعض من «البلوجرز» يقدمون إعلانات وتوعية صحية ورياضية وإعلامية وتعليمية وقيادية وتطوعية، وهم القلة المفيدة من رواد السوشال ميديا ونجومه ويشكرون على دورهم هذا، لكن الأغلبية هم الضائعون والمضيعون لقيمة حياتهم ولسنوات أعمارهم المهدورة فيها ولوقتهم ووقت متابعيهم أيضاً، خاصة نجمات السوشال ميديا اللاتي ستتخلى وتسقط عنهم نجوميتهن بمجرد انطفاء وهج حيوية جمالهن، وبظهور هبة جمالية جديدة تمحوهن وتشطبهن في غمضة عين، حين تجتاحهن الهبة الجديدة العاتية التي تهب على مجتمع الهبات الذي لا تسكن زوابع هباته.