أما زالت الولايات المتحدة ترغب في دور بالشرق الأوسط؟
استغلت روسيا ضعف الولايات المتحدة على ثلاثة مسارح: مسألتي جورجيا وأوكرانيا، ومسألتي سورية والعراق، وإخلاء آخر القواعد المتبقية لها في المنطقة، كل هذا حدث بسبب استراتيجية عدم التدخل التي تتبعها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ليس بالنسبة إلى العرب فحسب، بل بالنسبة إلى أوروبا أيضاً.
قرر هنري كيسنجر، كبير أنصار الواقعية في الولايات المتحدة، المشاركة في الترويج لتوسيع الحرب الأهلية في سورية من خلال مقال في صحيفة "وول ستريت جورنال"، أشار فيه إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى استراتيجية جديدة في المنطقة.لا يمكن معارضة ذلك على الأقل، فقد كشفت الحرب الأهلية السورية مدى خطورة استراتيجية التجزئة وعدم التدخل التي تتبعها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ليس بالنسبة إلى العرب فحسب، بل بالنسبة إلى أوروبا أيضاً.
تشير النقطة الأساسية في مقال كيسنجر إلى أن مصير "داعش" أكثر أهمية بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة في المنطقة منه إلى أي عنصر آخر في هذه الأحجية الجيو-سياسية.وفق قراءة كيسنجر لما يجب أن يحصل، يستطيع بشار الأسد البقاء في السلطة (بطريقة ما) في سورية، وبإمكان إيران مواصلة ممارسة النفوذ في المنطقة (ما دامت تقوم بذلك بواسطة الأسلحة التقليدية، لا القوة غير المتوازنة)، وبمقدور روسيا أن تتابع قصف السوريين (أو حتى احتلال أراضٍ سورية، شرط أن تقضي على "داعش" فيها).بكلمات أخرى، من الممكن أن يكون كل ما حدث وسيحدث على الأرجح أن يشكل جزءاً من خطة الولايات المتحدة. ويشمل هذا كل ما عجزت الولايات المتحدة عن وقفه حتى اليوم.ولكن بالنسبة إلى خبير استراتيجي يشتهر في تقديمه رؤية سياسية بعيدة الأمد، يبدو هذا الطرح قصير الأمد على نحو غريب، فيبدو أن كيسنجر، الذي طالما امتلك فكرة مبالغاً فيها عما تستطيع القوة الأميركية تحقيقه في الخارج، تخلى عن قدرة الولايات المتحدة على العمل بحزم في منطقة الشرق الأوسط المعقدة، بدلاً من ذلك، ينصح القادة الأميركيين بالاكتفاء بإدارة تراجع تدخل الولايات المتحدة، متفوهين بالعبارات المستهلَكة المناسبة حين يتوجهون إلى المخرج.يضيف كيسنجر أن المنطقة تحتاج إلى "مفهوم استراتيجي" لا التعاطي مع "مناورات تكتيكية"، ولكن كما يشهد مَن عاشوا تجاربه في السياسة في فيتنام، تدور أفكاره غالباً حول ما يجب القيام به في المنطقة لا حول المنطقة بحد ذاتها.لنتأمل في مثال سورية، فخلال مناقشته اقتراحه بشأن نظام فدرالي، لم يتناول مطلقاً العدالة، كتب أن تقسيم المناطق العلوية والسنية "يحد من خطر حدوث إبادة جماعية"، ولم يأتِ مطلقاً على ذكر ما يجب أن يحل بمهندسي إبادة السوريين الحالية، وما إذا كان ملايين السوريين، الذين هُجروا، اغتصبوا، وذُبحت عائلاتهم، وقصفت مدنهم بالبراميل المتفجرة، مستعدين للقبول بدور للأسد (إليكم تلميحاً: لن يقبلوا). أو لنتأمل في ما يظن أنه يجب أن يكون موقف الولايات المتحدة من حلفائها التقليديين في دول الخليج العربي السنية. يشمل اقتراحه "تطبيق التطمينات العسكرية" التي قُدمت سابقاً قبل توقيع الصفقة النووية مع إيران، لكن الخليج العربي ما كان يقف مكتوف الأيدي خلال الأشهر الماضية، منتظراً "تطمينات" الولايات المتحدة، فغادر قطار السياسة الخارجية المحطة، ووُسّع نفوذ الخليج العسكري إلى شمال مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجنوبه، وبدأ عهد جديد، حتى قبل أن يصفه كيسنجر.لكنه ينجح في وصف بدقة لأحد الأسباب الرئيسة في تردد الولايات المتحدة. كتب: "لا يدور النقاش حول قوة أسلحة الولايات المتحدة، بل حول تصميمها على قيادة العالم الجديد"، إلا أنه لا يوسّع هذه النقطة.لا نعلم ما إذا كانت الولايات المتحدة تملك اليوم الإرادة لتضطلع بدورها التقليدي في المنطقة، وبكلمات أخرى هل ضعف باراك أوباما مؤقت ويقتصر على رئيس أميركي واحد، أم أنه أصبح راهناً أحد معالم العالم البارزة؟ وهل باتت الولايات المتحدة، التي تخبطت وسط حربين لم تُحسما وهزها ركود عميق، غير مستعدة لمواصلة دورها الذي أدته سابقاً؟لا تقتصر هذه المسألة على منطقة واحدة، ولأن منافسي الولايات المتحدة لا ينتظرون أن يقرر هذا البلد، وفق كيسنجر، "هو بنفسه الدور الذي سيؤديه"، انضموا إلى هذه اللعبة.استغلت روسيا ضعف الولايات المتحدة على ثلاثة مسارح: في أوروبا الشرقية في مسألتي جورجيا وأوكرانيا، وفي الشرق الأوسط اليوم في مسألتي سورية والعراق، وفي وسط آسيا حيث أُرغمت الولايات المتحدة السنة الماضية على إخلاء آخر القواعد المتبقية لها في المنطقة، ويحدث الأمر عينه في شرق آسيا، حيث توسع الصين وجودها في بحر الصين الجنوبي، وفي الشرق الأوسط، لم ينتظر منافسو الولايات المتحدة لاكتشاف الدور الذي تريده، بل أمضوا بدلاً من ذلك الوقت في رسم دور لأنفسهم، حتى حلفاء الولايات المتحدة سئموا الانتظار.لن تتمكن الولايات المتحدة في الواقع من التوصل إلى طريق للخروج من فوضى الشرق الأوسط إلى أن تقرر ما إذا كانت مستعدة حقاً للقيادة.هنري كيسنجر محق بقوله إن الولايات المتحدة تبحث عن دور في العالم، لكن السؤال الذي ينشأ: هل هي مستعدة للاضطلاع بأي دور راهناً؟* فيصل اليافعي | Faisal Al Yafai