في كل مرة يتجدَّد فيها السؤال: «أين ذهب الفيلم الديني؟»، كانت الحجة التي يقذفها البعض في وجوهنا بأنها نوعية من الأفلام تحتاج إلى كُلفة كبيرة لم تعد محتملة، وموازنة باهظة فوق الطاقة. ودائماً ما كنا نقتنع بالمبرر لما نعرفه من حاجة تلك النوعية من الأعمال الفنية إلى إمكانات ضخمة تُسهل مهمة تنفيذ ديكورات وملابس وأكسسوارات تُحيل المتفرج إلى الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، سواء أكانت فترة الجاهلية أو عصر ظهور الإسلام، والهجرة النبوية، والفتوحات الإسلامية، وما بعدها. فإضفاء مصداقية على الأحداث له دور كبير في إقناع العقل والقلب، ولا يتأتى أبداً من دون محاكاة حقيقية للزمن، في حين لا تتحقق المحاكاة من دون توافر رأس المال!
هكذا توهمنا لكننا تجاهلنا أن الظروف كافة، وعلى رأسها عنصر رأس المال، لم تكن مهيأة أو متوافرة بالقدر الكافي في فترة الخمسينيات والستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، ورغم هذا شهدت تصوير وإنتاج ذروة «الكلاسيكيات الدينية»، مثل: {ظهور الإسلام» (1961)، «انتصار الإسلام» (1952)، «بلال مؤذن الرسول» (1953)، «حملة أبرهة على بيت الله الحرام» (1957)، «رابعة العدوية» (1963)، «الناصر صلاح الدين» (1963)، «هجرة الرسول» (1964)، «الله أكبر» (1969)، «من عظماء الإسلام» (1970)، «فجر الإسلام» (1971)، «الشيماء» (1972)، هذا إذا استثنينا فيلم «الرسالة» (1975)، الذي أخرجه مصطفى العقاد، ورصدت له الجماهيرية الليبية، إبان حكم الرئيس القذافي، موازنة ضخمة قيل إنها تجاوزت الـ 15 مليون دولار، وصور الفيلم وطُبع في نسختين إحداهما ناطقة بالإنكليزية، قام ببطولتها أنتوني كوين، وحققت أرباحاً قُدرت بأكثر من 10 أضعاف ميزانية الفيلم، والثانية بالعربية من بطولة عبد الله غيث، كذلك تمت ترجمة الفيلم إلى 12 لغة عالمية.بناء على هذه الحقيقة، لم يعد من المقبول أن تتذرع شركات الإنتاج العربية، سينمائية وتلفزيونية، بالكلفة الضخمة للفيلم الديني كمبرر للتملص من إنتاج الفيلم الديني، خصوصاً إذا علمنا أن موازنة مسلسل درامي مثل «أستاذ ورئيس قسم» بطولة عادل إمام، الذي من المزمع عرضه مع أول أيام شهر رمضان المبارك، قُدرت بـ 35 مليون جنيه مصري!قد يُرجع البعض، أيضاً، أسباب تراجع إنتاج الفيلم الديني، وتقلص ما أنتج منه، إلى عشرة أفلام تقريباً من بين نحو ثلاثة آلاف فيلم أنتجتها السينما المصرية حتى اليوم، إلى رحيل رواد الكتابة الدينية، مثل د. طه حسين صاحب قصة «الوعد الحق» المأخوذ عنها فيلم «ظهور الاسلام»، فؤاد وأحمد الطوخي «انتصار الإسلام» و{بلال مؤذن الرسول» و»حملة أبرهة»، سنية قراعة «رابعة العدوية»، عبد الحميد جودة السحار «فجر الإسلام»، نجيب محفوظ الذي كتب فيلم «الله أكبر»، وعلي أحمد باكثير كاتب رواية «الشيماء»، والكتَّاب الأربعة لفيلم "الرسالة”: توفيق الحكيم، عبد الحميد جودة السحار، محمد علي ماهر وعبد الرحمن الشرقاوي، وإحجام الكتاب والمؤلفين في العصر الراهن عن كتابة الفيلم الديني خشية ضياع الوقت والجهد المبذولين في الكتابة، في حال رفض الشركات الإنتاجية تخصيص المبلغ اللازم لدعمه وتمويله، واهتمامها ثم تفرغها لإنتاج الألوان الفنية الأخرى، كالحركة والكوميديا. لكن الأمر المؤكد أن الساحة الفنية ذاخرة بالكتَّاب والمؤلفين القادرين على كتابة الفيلم الديني، مثل: يسري الجندي، محفوظ عبد الرحمن، الكاتب الفلسطيني الأردني وليد سيف... وغيرهم من مواهب لم نكتشفها بعد في ظل اختفاء الفيلم الديني من خارطة، وخطة، شركات الإنتاج، وهو الأمر الذي ينطبق على الممثلين والمخرجين، كذلك الموسيقيين. أزمة عنيفة أخرى تواجه إنتاج الأفلام الدينية، وتثير هلع الشركات الإنتاجية وذعر الكتاب والمخرجين، تتمثل في سطوة الرقابة، والمؤسسات الدينية الأخرى، كالأزهر والكنيسة. فالشركة تكلف الكاتب بطرق موضوع ديني ما، ويتفرغ بدوره للبحث في الكتب والمؤلفات والمراجع والموسوعات، وبمجرد أن يفرغ من مهمته الثقيلة تتقدَّم شركة الإنتاج بالسيناريو إلى الرقابة، التي تمنح موافقتها على مرحلتين: الأولى على السيناريو، والثانية على المنتج النهائي، ودائماً ما تجبن عن اتخاذ قرار بشأن الفيلم الديني، ومن ثم تُحيل السيناريو، الذي يناقش الشأن الديني الإسلامي والمسيحي إلى الأزهر أو الكنيسة، ليبتا فيه، وبعد شد وجذب، ولجان تضم النقاد والمثقفين تُدلي بدلوها في السيناريو، تتخذ الرقابة قرارها النهائي، مع تأشيرة تقول: {تُمنح الموافقة النهائية على العرض العام بعد مشاهدة نسخة العمل في صورته النهائية}، بما يعني أن الشركة مُطالبة بتقديم الفيلم مرة أخرى للرقابة، التي تمنح التصريح بالعرض العام. وفي حال ارتأت الرقابة أن ثمة ملاحظات أو مؤاخذات على الفيلم الذي أنفق عليه المنتج ملايين الجنيهات يمكنها، بجرة قلم، إصدار قرار بإعدامه، وحظر عرضه عرضاً عاماً، وهو المصير الذي ينتظر الفيلم الديني في الغالب، فمن ذا الذي يجرؤ على التفكير في إنتاج فيلم يجر عليه المتاعب؟
توابل - سيما
«خرج... ولم يعد»!
22-06-2015