أفكار وأضواء: من مشاكل الإخوان... الداخلية
أولى أولويات «الإخوان المسلمين» تقوية الحزب، حيث الولاء التام والطاعة الخالصة لقيادة الإخوان، ولأوامر الحزب ونواهيه والخضوع المطلق للجماعة، حتى يكون الواحد منهم كالميت في يد غاسله، فتعطي الجماعة الأولوية في الترقية والبروز والصعود لمن يعتبر أشد ولاء للحركة، وربما أشد خضوعاً لهذا القيادي فيها أو ذاك.
منذ انطلاق دعوة مرشد الإخوان المسلمين حسن البنا عام 1928، وطموحاته، كما يظهر من كتاباته وآثاره، تسبق إمكاناته بكثير، وبخاصة سعيه لدخول الحياة السياسية المصرية والهيمنة على ما يسعه من مساحتها بعد ذلك، بما كان يحمل في جيوبه من أهداف غامضة وشعارات براقة، وما استخلص من قراءاته ودراسته وصراعات عصره من توجهات.كان الغموض والصمت والكتمان محور تحرك الإخوان في أغلب الأحيان، ولم تكن الجماعة يوماً حركة سياسية عصرية شفافة، ولا يزال هذا شأنها اليوم رغم كل التطورات السياسية والدروس، ولم يكن المرشد نفسه شخصاً عادياً، إذ تدل خطبه ورسائله وبعض مقالاته في صحف ومجلات الإخوان قبل عام 1949 على أن الحاجة لا تزال ماسة لتحليل بعض جوانب تفكيره ومنطلقاته، ولا أدري إن كانت كتابات البنا ومقالاته قد جمعت كلها، إلى جانب خطبه وأقواله في كتاب.
من جانب آخر، وكما هو معروف، لم ينشر الإخوان المسلمون حتى اليوم تاريخاً رسمياً معتمداً للجماعة، ولا قاموا بتوثيق تراثهم بما يسهل على الدارسين معالجة غوامض الجماعة في مسيرتها الحافلة منذ عام 1928، ولا تزال أسئلة كثيرة تتعلق ببداية الدعوة ودخولها معترك الحياة السياسية وإنشاء جهازها السري الخاص، وصراعاتها الداخلية موضوع أخذ ورد بين الكتّاب والباحثين، والخصوم والأصدقاء، في غياب أي إقرار أو نفي مفصل من قبل الإخوان، ولا شك أن الإخوان في اعتقادي ليتمنون أن تنمحي بعض تفاصيل هذا التاريخ وتندرس ملامحه، وبخاصة ما تسرب منها إلى الكتب والمقالات والاعترافات والوثائق المنشورة وغيرها.ولا يعد غياب التوثيق والتأليف غريباً على الإخوان ربما في مصر وخارجها، فالجماعة على ضخامتها وسعة انتشارها وكثرة الأساتذة والأكاديميين فيها، لم تبرز يوماً في مجال الفكر والثقافة والإبداع الأدبي وتصنيف المؤلفات والمراجع، بل ما إن ينطلق بعض الإخوان في مجال الثقافة والفكر والاطلاع حتى تضعف صلته بالجماعة، ويقوى إحساسه بضحالتها وسذاجتها، ويسقط هذا الأخ تدريجياً، كما يقول الإخوان "من قطار الدعوة".انغلاق ثقافيولا يطالب قيادات الجماعة أعضاءها بالتعمق الثقافي وسعة الاطلاع، بل يحرصون على ألا يطلع الواحد منهم سوى كتب ومؤلفات الإخوان، والتركيز مثلا على رسائل البنا ومأثوراته، والمؤلفات التبجيلية الحزبية التي تنشرها دور الطباعة الموالية لهم. وحتى شخصية إخوانية واسعة الاطلاع مثل سيد قطب نراه بعد أن يتسم بفكر الإخوان وضيق أفقهم، يصدر على تاريخه الفكري حكم الإعدام، بتأليف كتاب مثل "معالم في الطريق"، المتضمن دعوة صريحة إلى الانغلاق الثقافي وهجر العلوم الإنسانية والارتياب في الثقافة البشرية والفنون، وهكذا بقيت جماعة الإخوان المسلمين على الدوام حركة سياسية دينية متشددة تعزل على الدوام من صفوفها من "لا يستوعب" المناورات السياسية. وهؤلاء الذين ينفصلون عن يمين الحركة أو يسارها، يقومون بدورهم أحيانا بتأسيس حركات أكثر مجاهرة وتهديداً باستخدام العنف والتكفير، أو أكثر عودة إلى "منابع الدين" أو يتحررون نهائياً من البقاء بين جدران هذا المحبس، ولم تفلح حركة الإخوان حتى في البلدان التي لم تعانِ فيها أي اضطهاد أو ملاحقة، بل وجدت كل ما تتمناه من راحة ومال وجاه، كبعض الدول الخليجية، ومنها الكويت، لم تفلح الجماعة في أن تقود نهضة ثقافية أو اجتماعية تلعب دوراً في تحديث هذه المجتمعات، ففي الكويت مثلا لم تدع حركة الإخوان المسلمين يوما، منذ بدايتها عام 1946 أو 1952، إلى دستور وبرلمان أو أي تحديث للقوانين أو تغيير اجتماعي ملموس، وغاية ما حرصت عليه كان توسيع العضوية في الحركة، وتعميق العقائدية في السلوك الحزبي، ولم تكترث بأي مظهر من مظاهر التحديث والتغيير في مجالات التعليم والنشاط الاجتماعي والحياة الثقافية والإعلامية، ولو درسنا دور الإخوان في مجتمعات عربية أخرى لما وجدنا ما يختلف كثيراً عن هذا الدور.ولم تنهض حركة الإخوان المسلمين، على اتساع ثرائها وكثرة أعضائها باللغة العربية أو الثقافة العربية، بل حتى بالثقافة الإسلامية! ولم يتبنوا مثلا قاموساً مفصلا متعدد المجلدات للغة العربية، ولا أقاموا الندوات الثقافية والتاريخية، ولا وضعوا الكتب ولا برزوا في مجال الترجمة، بل حتى في مجال فن الخط "والسينما الإسلامية"، التي ظلوا يتحدثون عنها طويلاً، وقاموا بتحجيب الكثير من الممثلات استعداداً لانطلاقها! ولم يكتفوا بهذا التقصير المشين بحق "ثقافة الأمة" التي يتغنون بثرائها ويعتبرون أنفسهم في مقدمة حراسها والمدافعين عنها وعن نقائها وصفائها وحمايتها من الغزو الثقافي وسلب الهوية.تهميش دور المرأةوقد لعب التيار الإسلامي عموماً والإخوان المسلمون خصوصاً دوراً أساسيا في عرقلة مشاريع قاسم أمين والشيخ محمد عبده وطه حسين وغيرهم، وعادوا بشكل خاص حركة النهوض الاجتماعي والثقافي والسياسي بالمرأة، حيث نجحوا نجاحاً باهراً في بعض المساعي، ولكن هل نهضوا حقاً بالمرأة المسلمة في أي دولة عربية أو إسلامية؟ وهل وقفوا مثلا بحزم وشجاعة ضد الثقافة القبلية والتكبيل الاجتماعي والحرمان من الميراث وانتشار الأمية ومنع التعليم وتزويج الصغار والصغيرات، ومصادرة الحقوق القانونية والشرعية للمرأة؟ وهل فعلوا شيئاً من هذا في شمال إفريقيا ومصر ودول الشام والعراق ودول الخليج وحتى في باكستان وإيران وإندونيسيا وأي مكان آخر نشطوا فيه؟ وهل تحركت في هذا المجال أحزاب الإسلام السياسي ضمن أي مذهب؟ وهل داس الإخوان في سبيل النهوض بالمرأة باعتبارها نصف عدد المسلمين في العالم، على مصالحهم المادية والسياسية، أم أنهم فضلوا كسب زعماء القبائل ووجوه المجتمع الرجالي والجماعات المتدينة والعشائرية وغيرها، والمعادية في أكثر الأحيان لتعليم المرأة، وتحديث حياتها وتوعيتها بحقوقها القانونية؟ لقد كان الإخوان المسلمون قوة كبرى في اليمن مثلا، فماذا فعلوا في مجال "حقوق المرأة المسلمة"؟ إزاء هيمنة القوى والقيم القبلية والتخلف الاجتماعي؟ ولقد "ضحك" الإخوان المسلمون طويلا على رجال ونساء العرب والمسلمين، بتأسيس ما أسموه جماعة "الأخوات المسلمات"، فأين هذه المنظمة النسائية اليوم في واقع المرأة العربية؟ وإذا كانت "حرائر الأخوات المسلمات" في مصر مشغولات بالجهاد والتظاهر لوضع د. مرسي ثانية على الكرسي، فأين دور "الأخوات المسلمات" في بقية المجتمعات؟ بل ما حجم دور المرأة في قيادة العمل الإسلامي أو جماعات الإخوان في مختلف الدول؟إلى جانب كل هذا، يتسبب التيار الديني، وتحرك الإسلام السياسي والإخوان بإثارة الفوارق الدينية والاختلافات الطائفية في المجتمع، وصرف طاقات الرجال والنساء في مجالات ونشاطات لا تخدم تقدم البلاد، وما إن يتسلط هذا التيار على أي بلاد حتى تنتعش فيه الصراعات الدينية والاختلافات المذهبية وألوان التعصب، ويكفي أن نتأمل الدور المعرقل المعوّق الذي لعبته جماعة الإخوان المسلمين والقوى الدينية الممثلة التي شكلت هاجساً رئيسا للحركة الثقافية والحركة النسائية والحياة السياسية، ولا يزال التشدد الديني المدعوم بقوة من الجماعات الإسلامية المختلفة السد المنيع أمام جهود النهضة والتغيير في كل بلدان العالم الإسلامي تقريباً.ولكن إن لم تكن جماعة الإخوان تهتم بكل ما ذكرنا في مجالات الثقافة والنهضة الاجتماعية، ولا تعطيها الأولوية في بناء وتوجيه أعضاء أسرها الحزبية ودعاتها، فأين تركز توجيهاتها إذاً؟ أولى هذه الأولويات كما هو معروف تقوية الحزب، حيث الولاء التام والطاعة الخالصة لقيادة الإخوان، ولأوامر الحزب ونواهيه والخضوع المطلق للجماعة، حتى يكون الواحد من الإخوان كالميت في يد غاسله، وهكذا ستعطي الجماعة الأولوية في الترقية والبروز والصعود لمن يعتبر أشد ولاء للحركة، وربما أشد خضوعاً لهذا القيادي في الجماعة أو ذاك، وليس لمن له عين ناقدة وعقل مستقل وبصيرة نافذة ومواهب ثقافية إلا إن كان سيضعها في خدمة "الجماعة".الصراعات الداخليةومن المشاكل العملية في متابعة أعضاء الحركة ما يقوله فتحي يكن: "في بعض الأقطار يكون توظيف الحركة لطاقات أفرادها في سنوات التلمذة ومرحلة الشباب، حتى إذا استدار الزمان، وانتقل الفرد من طور التلمذة إلى طور العمل، ومن مرحلة الشباب إلى مرحلة الرجولة، فغدا رب عائلة، أو صاحب مركز اجتماعي مرموق، تبدأ العلاقة بالفتور بينه وبين الحركة، بسبب انشغالاته، وبسبب عدم توفير الحركة لمجالات العمل التي تتناسب ووضعه المستجد، وقد ينتهي الأمر إلى القطيعة التي يسببها عقم الحركة، وإذا به خارج إطارها لا تربطه بها إلا ذكريات قديمة". (المتساقطون على طريق الدعوة، كيف ولماذا؟ بيروت 1984، ص64-65).أما الأولوية الثانية في نشاط هؤلاء الدعاة فهي توسيع نفوذ الجماعة على كل صعيد: سياسياً، وماليا، وإداريا، واجتماعياً، وقبلياً وعشائرياً، وفي كل مجال، ولا يعني هذا أن الإخوان ينجحون دائما في "قولبة" وتشكيل من يدخل جماعتهم، وإلا لما انشق ربما عنها أحد، ويعتبر القيادي الإخواني اللبناني فتحي يكن نفسه أن "الصراعات الداخلية تعتبر من أخطر ما يصيب الحركات من أمراض، ومن العوامل التي تفتّ في عضدها، والمعاول التي تتسبب في هدمها، فهي من جهة تسمم الأجواء وتكهربها، ومن جهة أخرى تفسد علائق الأفراد، ومن جهة ثالثة تورث الجدل والمراء وتوقف العمل والبناء... ثم هي فوق هذا وذاك توهن الدعوة وتغري بها من حولها"، ويحذر "يكن" من مخاطر عدم الانضباط والعجز عن التكيف مع سياسات الجماعة، ويقول في الكتاب نفسه: "ومن هؤلاء من يرفض "الذوبان" في البنية الجماعية، ويحرص على أن يحافظ على شخصيته، وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان، ورأيه لعدم القبول، يولي الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير". (ص82). وما أكثر الدعاة ونشطاء الإخوان وغيرهم، ممن يستفيدون من "العمل الإسلامي" التنظيمي، قبل الانتباه إلى من حولهم من القيادات المتمولة والعناصر المستفيدة بـ"الطالع والنازل"، قبل أن تفكر هي كذلك بمستقبلها ومصالحها، وقد قمت بعرض الكثير من شكاوى الإسلاميين أنفسهم من هؤلاء. (انظر كتاب" مشاكل الدعاة" شركة كاظمة، الكويت 1988).يقول أحد الإخوان، مصطفى الطحان، في كتابه" الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف"، عن تجربته الشخصية:"ترى رجالا تظنهم من أتقى الناس وأحرصهم على دعوة الإسلام، وبعد أن تسبر غورهم تجدهم من أحرص الناس على الجاه والمنصب والإمارة، ولكم رأينا وجوهاً خاشعة تتمتم بالتسبيح ثم لا تتورع عن أخس الأساليب في سبيل البقاء والارتقاء، ولقد رأينا شخصيات إسلامية كبيرة تستهويها السلطة، أو يأخذ بلبها المنصب، أو تنقلب على أعقابها من الخوف، أو تُشترى بالمال، أو يكون الصلاح قشرة رقيقة لا تُنكر منكراً ولا تأمر بالمعروف إلا إذا وافق هواها ومأربها". (ص116-117، الكويت: دار الوثائق، 1984). لقد قالت حركة الإخوان المسلمين عن نفسها بأنها عدة هيئات ونشاطات واهتمامات في جماعة واحدة، وأن "فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية"، فهي دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية". ويضيف مرشد الجماعة في رسائله: "ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضاً وما هو بمتناقض".ولكن مثل هذه النظرة المثالية لأي حركة سياسية تجد من ينتقدها حتى من داخل الصف الإسلامي، إذ يقول كبير دعاة الإخوان في باكستان أبو الأعلى المودودي في كتابه "تذكرة دعاة الإسلام"؛ لاهور- باكستان، 1976: "أريد أن أوصيكم بأن تؤثروا الآخرة على الدنيا... ليس اختبارنا في هذه الدنيا في إبراز مهارتنا في تسيير الصناعات والتجارات والزراعات والحكومات، ولا في إنشاء الأبنية والشوارع، ولا في إحداث مدنية راقية رائعة، وإنما في أداء حق خلافة الله في ودائعه". (ص53). ولكن، مَن مِن الجماعة سيقتنع بدعوة الزهد هذه... وإيثار الآخرة؟