هل يمكن القول إن فيلم «الناصر صلاح الدين»، الذي أنتج في العام 1963 فيلم ديني أم تاريخي؟ وماذا عن هؤلاء الذين ينظرون إليه بوصفه فيلماً سياسياً بامتياز، ووجهة نظرهم في هذا أن مخرجه يوسف شاهين لم يكن ليورط نفسه في فيلم يتبنى توجهاً دينياً بل يسعى جاهداً إلى طرح رسالة سياسية تتوافق والمد الناصري في مطلع الستينيات. والدليل على هذا أنه لم يُطلق على فيلمه اسم «صلاح الدين الأيوبي»، إنما تعمد أن يسميه «الناصر صلاح الدين»، بالإضافة إلى أن الفيلم، كما تقول العناوين، أنتج بالاشتراك بين شركة «لوتس فيلم»، التي تملكها المنتجة آسيا داغر، والمؤسسة المصرية العامة للسينما، التي تملكها الدولة المصرية!

Ad

يُحسب للفيلم ضمه كوكبة من المبدعين، فالقصة كتبها يوسف السباعي وعالجها، حسبما قالت العناوين، نجيب محفوظ، عز الدين ذو الفقار، محمد عبد الجواد، بينما كتب السيناريو عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف شاهين وكتب الحوار عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي، وشارك في تصميم الملابس والأكسسوارات ولي الدين سامح، شادي عبد السلام وجبرائيل كراز، وباشرت المونتاج رشيدة عبد السلام بينما تولى إدارة التصوير وديد سري، وشارك في البطولة: أحمد مظهر في دور القائد صلاح الدين، نادية لطفي في دور لويزا، صلاح ذو الفقار في دور عيسى العوام، حمدي غيث في دور ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، أحمد لوكسر  في دور رينو دي شاتيون أمير حصن الكرك، ليلى فوزي في دور فيرجينيا، عمر الحريري في دور فيليب أغسطس ملك فرنسا، ليلى طاهر في دور ملكة إنكلترا وحسين رياض في دور هيكاري. لكن أهم ملمح في الفيلم يكمن في موسيقاه الأوركسترالية، التي ألفها فرانشسكو لافانينو، وعزفتها فرقة أوركسترا القاهرة السيمفوني، والكورال، بقيادة كارلو سافينا، إذ أضفت على الفيلم ملحمية، ومنحته مهابة، اكتملت بالاختيار الرائع لمواقع التصوير، التي توحي لمن يشاهد الفيلم بأنه صور في القدس والحدود المتاخمة لها!

كل هذه العوامل لم تمنح للفيلم، الذي قيل إن منتجته رصدت له موازنة قُدرت بمئتي ألف جنيه بمقاييس تلك الحقبة، النجاح المتوقع، بل حقق فشلاً ذريعاً، رغم تناوله الحروب الصليبية، وسعيه إلى تأكيد عروبة القدس، وقدسيتها التي لا يختلف عليها أهل الأديان جميعاً. فالانتقادات طاولت الفيلم، وانصب معظمها على احتوائه كثير من المغالطات التي خصمت من مصداقيته، كالقول إن والي عكا، الذي جسد دوره توفيق الدقن، خان العرب، وصلاح الدين، بينما قال الباحثون إنه استمات في الدفاع عن عكا طوال عامين حوصرت خلالها بواسطة الصليبيين. وفيما نشأ الجمهور العربي، وتعلق، بشخصية عيسى العوام، بوصفه المسيحي الذي قاتل الصليبيين، كشف القاضي بهاء الدين بن شداد في كتابه «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» أن عيسى العوام لم يكن نصرانياً، وإنما غواصاً مسلماً حارب ضد الصليبيين، وغرق على شواطئ عكا عام 379 م!

كيف ارتكب الفيلم، بما يضمه من كتاب كبار على شاكلة: يوسف السباعي، نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي،أخطاء ساذجة كهذه، بل كيف يستقيم أن يقول صلاح ذو الفقار في أحد مشاهد الفيلم: «عيني تعبت من التغميض»، في حين اهتم الفيلم كثيراً بما قيل عن تجميل صورة العدو ريتشارد قلب الأسد، الذي قيل إنه استبقى 2700 أسير كرهائن لضمان الوفاء بجميع شروط الاستسلام، لكنه أمر بقتلهم قبل أن تتحرك قواته من عكا؟ وهل كان «الناصر صلاح الدين» بمثابة الإرهاصة في التكوين السياسي ليوسف شاهين، وميله إلى تكريس قيم الإخاء ودعوته إلى التسامح وقبول الآخر؟

لقد عاب المؤرخون والباحثون على الفيلم إطلاق اسم «أورشليم» بدلاً من «بيت المقدس»، وفي ظني أن الهجوم ينطلق عن وجهة نظر دينية متطرفة، فاسم «أورشليم» محفور في نقش مصري يرجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. أما القول بأن الفيلم احتوى على شخصيات خيالية، مثل فيرجينيا ولويزا، بالإضافة إلى أحداث تاريخية لم ترد في كتب التاريخ، كالعلاقة بين «عيسى» و»لويزا}، والمبارزة بين صلاح الدين الأيوبي وأمير الكرك، فضلاً عن إصابة «ريتشارد» بسهم عربي مسموم، بتدبير من الدوق آرثر، فالخيال السينمائي يحتمل أن تتضمن المعالجة إضافات وتغييرات، كما أن المراقب لشخصية «عيسى العوام» يُدرك أن ثمة رسالة من وراء اختيار شخص مسيحي ليحارب في صفوف العرب ضد الصليبيين، وهو ما أكده الحوار بينه ولويزا، التي تسأله: «مسيحي وتحارب معهم؟» فيجيبها: «معهم؟ هم أهلي وأخوتي أنا عربي»، ولما تسأله مستنكرة: «وإخوانك في الصليب» يعلق قائلاً:»مستحيل أن يعترف مسيحي مخلص بأخوة غرباء استخدموا الصليب كقناع لغزو بلاده»، لكني تمنيت لو كانت الشخصية من وحي الخيال، ولا علاقة لها بفقيه معروف!