في عام 2001 في شهر نوفمبر وصلت إلى كندا. في صباح أول يوم رأيت أمام الباب مجموعة من الكتب منزوعة الأغلفة – من دون أن أعلم سبب ذلك - في صندوق.

Ad

تصفحت الكتب، وهي عبارة عن مجموعة من الروايات وكتب أخرى نقلتها كنواة مكتبة جديدة. كانت تلك هدية غير مقصودة من أحد الجيران للمهاجر الجديد الذي جاء من دون مكتبته. الكتاب الذي شدني كان صغيرا وبسيطا لمؤلفة أميركية من أصل كندي اسمها ألينور كوور، بعنوان "ساداكو والألف طائر كراكي ورقي". كان كتاباً مؤلماً، وكأنني بحاجة إلى كل هذا الحزن وليس لديّ ما يكفي.

في السادس من أغسطس عام 1945 كانت "ساداكو ساساكي" في عامها الثاني، حين ألقت أميركا قنبلتها النووية بالقرب من منزلها على جسر ميساسا في هيروشيما اليابانية. كانت بيتها يبعد ميلا واحدا عن موقع القنبلة. بعد ذلك بعشرة أعوام بدأت الإشعاعات تترك أثرها على جسد ساداكو بألوان قرمزية، وتم تشخيص مرضها بسرطان اللوكيميا، أو ما سمي حينها بمرض القنبلة النووية. أمام الفتاة سنة واحدة على أبعد تقدير ليتوقف قلبها عن الحياة. وبقيت سنتها تلك في المصحة، حيث نذرت نفسها لصنع ألف طائر كراكي، وهو فن ياباني قديم يعرف "بالأوريغامي"، حيث يتم تحويل ورقة ذات بعدين إلى كائن أو حالة ذات ثلاثة أبعاد.

الأسطورة اليابانية تقول إن من يصنع ألف طائر كراكي ورقي تتحقق له أمنية. وكانت أمنية ساداكو بالطبع أن تعيش. ولكنها أكملت 644 طائراً قبل أن تضعف تماماً وتعجز عن صناعة أي طائر آخر. ماتت ساداكو قبل أن تكمل العام الذي رجح الأطباء أنها ستعيشه، ليقوم أصدقاؤها وعائلتها بإكمال العدد الى ألف طائر تم دفنها معها.

وقام زملاء دراستها بطباعة مجموعة من الرسائل لجمع تبرعات لإقامة نصب تذكاري لها في هيروشيما، وهي تحمل طائر كراكي ذهبي في ميدان هيروشيما للسلام.

ترجم الكتاب منذ بداية نشره عام 1977 إلى لغات عديدة، واستمر يطبع كأحد أعمال تعليم السلام للأطفال، وتعود ذكراه وذكرى ساداكو كأحد رموز السلام في الوقت الذي يعيش فيه العالم حالة حرب مستمرة.

وفي كل مرة تنتهي حرب ما، يدرك الناس أن السبيل الوحيد للعيش هو السلم، ولكنه إدراك مناقض للواقع الذي تصنع فيه الحروب بقدر أكبر من صناعة السلام. وما إن تهدأ جبهة هنا حتى تفتح جبهة هناك.

يشعلون الحرب ثم يكتبون السلام بعد سنوات، كمن يغسل يديه من الدماء وينفض رأسه من كوابيس الأرواح التي أزهقها. ويعيدون كل شيء من جديد في مكان ما من العالم، وهذه المرة هنا في عالمنا العربي المطحون بحروب لن تنتهي. يقتلون الأطفال والأبرياء لكي يتمكنوا من كتابة مراثيهم الجديدة. يلوثون العالم عام 1945 ويتباكون عليه عام 1977.

الأطفال الذين دمرتهم الحروب في عالمنا العربي لن يتمكنوا من كتابة رسالة للعالم على حائط لم يتهدم بعد، لم يستطع الأطباء أن يشخصوا سرطاناتهم واصفرار لونهم من "الكيماوي" وغاز الخردل وبراميل المتفجرات. في هذا العالم المهووس بالسلاح والقتل، لا وقت لطفل أن يتمكن من طي طائر كراكي واحد، ولن يهتم أحد برفع نصب له في ميدان، فكل الميادين مقابر.