ما قل ودل: الرئيس السيسي لن يسمح بالاستيلاء على جنيه واحد من أموال الدولة
إنني بالرغم من حماسي الشديد لمواجهة منظومة الفساد في مصر، وأن تكون من أولويات الرئيس، تحقيقا لأهداف الثورتين، فإنني لم أكن أتوقع، ولم تكن منظومة الفساد ذاتها تتوقع أن تبدأ المواجهة بينها وبين النظام الآن.
الرئيس يعلن الحرب على الفسادفي كلمته التي ألقاها أمام شباب الجامعات المصرية، في مؤتمرهم العاشر بمقر جامعة قناة السويس يوم الأحد الماضي، أكد أنه لا تستر على الفساد، وأنه لن يسمح بالاستيلاء على جنيه واحد من أموال الدولة، كما أشار إلى الفساد في تخصيص الأراضي.وكنت قد تناولت منظومة الفساد في مصر في أكثر من مقال نشر على هذه الصفحة في الأعداد الصادرة بتاريخ 1 و8 مارس و3 و10 و31 مايو و7 و14 و28 يونيو و23 أغسطس من العام الجاري.وكان من بين ما تناولته عن منظومة الفساد في هذه المقالات أن الرئيس السيسي الذي أولته جماهير ثورة التصحيح في 30 يونيو ثقتها الكاملة بأن يحقق مطالب الثورة: عيش وحرية وعدالة اجتماعية، عليه أن يعلن خطته في تحقيق هذه العدالة وفي الحرب على منظومة الفساد، التي نمت وترعرعت خلال العقود السابقة في ظل تزاوج المال بالسلطة، وأن تقوم وسائل الإعلام بزرع القيم الاجتماعية التي تقوم عليها هذه الخطة في نفوس الناخبين المؤمنين به ووجدانهم، لتدور المعركة الانتخابية حول هذه الخطة، للحد من تأثير المال السياسي على هذه الانتخابات، خصوصا أن منظومة الفساد هي أحد منابع تمويل الإرهاب، الذي يخوض حربه القذرة ضد هذا الشعب وضد النظام بالوكالة عن منظومة الفساد لا عن جماعة الإخوان وحدها، لتضمن هذه المنظومة انشغال النظام عن معركته معها والتي ستكون أكثر شراسة وكلفة.الفساد المقننذلك أن مصر انتقلت إلى مرحلة جدية، هي مرحلة الفساد المقنن، الذي أفرزه تزاوج المال بالسلطة، ليحتمي بالمؤسسات الدستورية، فسنّ القوانين التي تمنحه المزايا والتسهيلات المختلفة والإعفاءات والتخفيضات الضريبية، وأساء استخدام هذه المزايا والتسهيلات فتكدست ثروات مجتمع النصف في المئة، ليزداد شراسة في توسيع الفجوة بينه وبين سائر الطبقات ومنها الطبقة الوسطى، التي أصبحت تتآكل الآن، بسبب تطلعها إلى تحقيق مستوى أعلى من الرفاهية لها، بالحصول على سكن أو مصيف أو مشتى في المقاطعات، أو توظيف أموالها المدخرة لدى أباطرة هذه المقاطعات، وقد دفع هذه الطبقة إلى ذلك إعلام مضلل في الفضائيات والصحف، وأصبحت الدولة عاجزة عن استعادة هيبتها وسيادتها على المقاطعات التي تملكها الأباطرة في عهد الرئيس مبارك، والذين لا يزالون يتمتعون بما نهبوه من المال العام، بل يتمادون في تحقيق المال الحرام من الشعب في غيبة أي رقابة من الدولة، لتحصل في النهاية هذه الطبقة على فتات الأيتام على موائد الأباطرة اللئام.المال السياسي والانتخابات وفي سياق الحديث عن الانتخابات القادمة لم أستبعد تأثير المال السياسي على الانتخابات القادمة، فسيدافع أباطرة هذه المقاطعات التي خرجت عن سيطرة الدولة وسيادتها عن مناطق نفوذهم وعن مكاسبهم ومكتسباتهم اللا شرعية، بضخ المال السياسي في هذه الانتخابات، ليحول البرلمان القادم بين الدولة وبين استردادها لسيادتها مرة أخرى على هذه المقاطعات، وحتى يقف البرلمان مكتوف الأيدى أمام التجاوزات التي يمارسها هؤلاء الأباطرة عدوانا على أحكام الدستور والقوانين.ومن الإنصاف أن نعترف للرئيس السيسي بأنه لا يألو جهدا في السعي إلى جذب الاستثمارات، وعقد اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول لتنفيذ مشروعات عصر النهضة الذي يحقق أهداف ثورتين دفع هذا الشعب ثمنهما كاملا من دماء شبابه. حتى لا تتآكل شعبية الرئيسوتمنيت في أحد هذه المقالات ألا تتآكل شعبية الرئيس السيسي الذي حاز ثقة الشعب المصري بهذه الأغلبية الساحقة من الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية إذا تأخر طويلا عن إعلان حربه على الفساد، ذلك أنه في حاجة إلى تثبيت شرعيته الوطنية بإعلان برنامجه الوطني الشعبي، الذي تغيب عنه حتى الآن، بالرغم من إنجازاته الهائلة، رؤية ومنظومة واضحتين للعدالة الاجتماعية وسياسة واضحة وآليات حقيقية لتحقيقها، وغياب سياسة واضحة ومنظومة كاملة وتشريعات وآليات قادرة على مكافحة الفساد.قانون الغدر لم يلغَ ولم يسقطوقد طالبت في مقال لي نشر بصحيفة الأخبار المصرية في عددها الصادر 24 يوليو 2011 تحت عنوان "قانون الغدر ليس امتيازاً لثورة 1952 ولا قصراً على أعدائها وخصومها"، بتفعيل هذا القانون أمام محاكمنا العادية لمحاسبة كل من استغل نفوذه، وشارك في إفساد الحياة السياسية وفي منظومة الفساد.وقلت إن قانون الغدر لا يرتبط، وجوداً وعدماً، ببقاء المحكمة الاستثنائية التي أنشأها نظام الحكم بعد ثورة 23 يوليو أو انتهاء ولايتها، إذ تعود الولاية في تطبيقه إلى القاضي الطبيعي، أي إلى المحاكم الجنائية العادية التي تتولى الآن الفصل في قضايا الفساد. ورفضت ما طالب به البعض من إصدار قانون غدر جديد، لأن القوانين الجنائية لا ترتد إلى الماضي.يقول المولى عز وجل "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا"، ومن وحي هذه الآية الكريمة استقرت المبادئ الدستورية على عدم الارتداد بالقوانين الجنائية إلى الماضي، وناشدت النائب العام وقتئذ المستشار عبدالمجيد محمود أن يصدر تعليماته إلى أعضاء النيابة العامة بأن يضموا إلى قائمة الاتهامات التي يحال بها المتهمون إلى المحاكم في قضايا الفساد اتهامهم كذلك بارتكاب جرائم الغدر التي نص عليها قانون الغدر الصادر في 22 ديسمبر 1952، خشية أن تصدر أحكام ببراءة بعض المتهمين بجرائم أخرى لم تتوافر الأدلة الكافية لإدانتهم بارتكابها، بالرغم من أن إفسادهم للحياة السياسية كان ثابتاً أمام المحكمة بيقين، بل ناشدته أيضاً أن يضم إلى هؤلاء المتهمين كل من يثبت في حقه ارتكاب إحدى جرائم الغدر المنصوص عليها في هذا القانون.ولو فعلنا هذا لكنا الآن في مأمن من عودة فلول الحزب الوطني المنحل في الانتخابات، وهو ما تتباكى عليه الآن كل التيارات السياسية التي تخوض الانتخابات، والتي رفضت تطبيق قانون الغدر بدعوى سقوطه، والقوانين لا تسقط بعدم التطبيق ولو ظلت كذلك لمئات الأعوام.والواقع أنني بالرغم من حماسي الشديد لمواجهة منظومة الفساد في مصر، وأن تكون من أولويات الرئيس، تحقيقا لأهداف الثورتين، فإنني لم أكن أتوقع، ولم تكن منظومة الفساد ذاتها تتوقع أن تبدأ المواجهة بينها وبين النظام الآن، فهي في غيها وما تملكه من أدوات الترغيب والترهيب والمال والنفوذ على كل المؤسسات، وانشغال الرئيس والنظام والشعب كله بالحرب ضد الإرهاب، وتمويلها له، تعتمد على قول الشاعر "أبشر بسلامة يا مربع".وفي انتظار أن يبدأ الرئيس السيسي، حربه ضد الفساد، فقد عودنا على أن يكون رجل أفعال لا أقوال.