«وجوه» على مسرح «بابل» في بيروت... مرآة داخلية للعلاقات الزوجية
الروتين المسيطر على نواحي الحياة المختلفة، لا سيما في العلاقات الزوجية، هو محور مسرحية {وجوه} للكاتب والمخرج جورج تابت (تعرض على خشبة {مسرح بابل} في بيروت حنى أواخر أكتوبر)، بطلاها زوجان تآكلتهما الرتابة، وخفتت شعلة حبهما لكثرة انشغالاتهما في امور العمل، وذلك ساهم في توسيع دائرة اللامبالاة في علاقتهما.
المسرحية واقعية، تتعدد فيها وسائل التعبير من غناء الذي يؤدي دور الراوي، وعرض مقاطع سينمائية هي جزء من المضمون تتداخل المشاعر فيها مع مشاعر الزوجين على المسرح، ولا عجب في ذلك طالما أنها تبرز لحظات جميلة وأخرى حزينة في علاقة بدأت منذ عشر سنوات بمنتهى الحب والرومنسية ووصلت إلى منتهى البرودة واللامبالاة.فادي (جورج تابت) وريما (نيللي معتوق)، زوجان يذهبان إلى العمل في الصباح الباكر ويعودان إلى المنزل في الخامسة مساء ويمضيان بقية الوقت مع بعضهما البعض، فيضطران إلى ارتداء أقنعة مزيفة ليكملان حياتهما سوياً، وتبين المسرحية الحقيقة التي لا يتفوهان بها، بل تجول في ذهنهما وتتفاعل مع كل موقف أو عبارة يتفوه بها أحدهما للآخر، ويعود الجمهور معهما في «فلاش باك» عن حياتهما خلال 10 سنوات.
تظهر «وجوه» مدى تقبل الشخص الآخر على حقيقته بكل سلبياته وإيجابياته، وتوخياً لهذه الحقيقة استشار كاتب المسرحية ومخرجها جورج تابت أخصائيين نفسيين لتكون المسرحية اقرب إلى الواقع.هكذا تتداخل وجوه عديدة في العلاقة بين الزوجين، ويشركان الجمهور جمال الحياة الزوجية ومشاكلها، بمرافقة وحضور مايا قصيفي غناء، وهي تعبّر عن مشاعر ريما، مع عازف البيانو زياد حاج بطرس المباشر على المسرح، لنسافر عبر مشاهد سينمائية صممتها كلارا قصيفي، فيأتي كل ذلك ليضع أمام المشاهد الأجواء المناسبة لمسرحية «وجوه».زوجة ثائرة ريما زوجة ثائرة على واقع جاء مخالفاً لأحلامها حول حياة جميلة ومستقرة مع زوجها، هي التي عاشت معه قصة حب قبل الزواج، وسمعت منه كلاماً معسولا حول استمرار الحب إلى الأبد، ووعوداً بتجدد هذا الحب باستمرار.تعود ريما من عملها مساء، وما إن تدخل بيتها حتى يرن جرس الباب وتدخل الجارة (ريتا جبر) فتسترسل في تطفلها إلى درجة التدخل في علاقة ريما وزوجها، وتصب الزيت على النار، واضعة إصبعها على الجرح النازف في مشاعر ريما، نتيجة ابتعاد زوجها عنها بحجة كثرة مشاغله واهتمامه بعمله بالدرجة الأولى وفقدان لغة الحوار بينهما، والملل المسيطر على علاقتهما، بعدما أخذ الهاتف الخليوي مكانها في دائرة اهتماماته، وهو ما نراه كثيراً في الواقع. من خلال المسرحية، يسعى تابت إلى إثبات أن الوجوه لا تُظهر مكنوناتها حرصاً منها على مشاعر الآخر وتداركاً للحياة الاجتماعية التي تفرض تزلّفاً مقصوداً في بعض الأحيان يرضي المتلقي. هذه الوجوه يبرزها عبر جلسة مصارحة بين الزوجين، يسترجعان فيها أيام شهر العسل والرومنسية وذكريات دفنتها الرتابة ووضعتها طي النسيان.تبدأ ريما بسؤال زوجها حول نهاره فيجيبها جواباً روتينيا ويعود إلى الانشغال بهاتفه الجوال، والنظر إليه بعين براقة كأنه ينظر إلى امرأة، كما يتبادر إلى ذهنها، وهي النظرة التي طالما كان ينظر بها إليها في بداية علاقتهما، فيما اليوم لا يفرق بينها وبين الكرسي. هنا تتساءل في حوار داخلي مع نفسها: أين الولد الذي كان يعيش فيه، اين الحب الدائم الذي وعدها به حتى كلمة بحبّك يتفوّه بها ببرودة، عيناه تفضحانه وتقول لها إنه يكذب عليها، لذا أصبح شخصاً غريباً بالنسبة إليها.لامبالاةيسترسل فادي في تصرفه اللامبالي ويستكمل حديثه عن العمل متجاهلا غضب زوجته، ليبين كيف أن الروتين يجعل المشاعر تصاب بالصدأ، ولا يعود أمام الزوجة سوى تذكر الأيام الخوالي، لا سيما شهر العسل في باريس الذي كان من أجمل أيام حياتها، ولا تزال تعيش لحظاته لغاية اليوم، لكنها سرعان ما تعود إلى الواقع، إلى اللحظة الحاضرة المؤلمة، فتشعر بأن مسافات طويلة تباعد بينها وبين زوجها مع أنهما تعاهدا في الزواج أن يصبحا شخصاً واحداً.«الشغل أهم شيء في حياتي»، هذه العبارة التي تلفظ بها الزوج إزاء غضب زوجته تجاهه، دفعتها إلى اكتشاف وجه جديد من أوجهه هو اللامبالاة تجاهها، فتعتبرها إهانة لها وتنفجر أمامه قائلة: «الإنسان يعمل ليعيش ولا يعيش ليعمل»، مرددة في قرارة ذاتها أن الإحساس أصبح مفتقداً بينهما، وأن انقطاع التواصل يفرض حكماً وضع حد لعلاقة زوجية يتحكّم فيها الروتين القاتل، وأصبحت الأيام تشبه بعضها البعض وضاعت فيها المشاعر الجميلة.لا تنتظر ريما حلاً من زوجها بل تريده أن يكون موجوداً في حياتها، وهنا تفكر بصوت عالٍ أيضاً رداً على مقولته إنه يعمل ليؤمن المال لهما، بأن المال لم يشترِ أبداً القلوب، يعتقد البعض أن المال يعوّض الوجود والاهتمام لكنهم مخطئون. الإنسان لا يمكن أن يكذب إلا على نفسه ويقنعها بأنه هو الصح».هذه الأوجه المتعددة التي تسيطر على علاقة الزوجين هدفت المسرحية إلى إظهارها بكل واقعيتها، لا لتعطي مواعظ، بل لتلمس المشاعر وتترك للمتلقي أن يجد بنفسه الحلول في حال كان يعيش علاقة مماثلة أو على الأقل ناحية معينة منها. لا شك في أن المسرحية تعرضت لحقيقة معينة يحرص أزواج كثر على عدم البوح بها واصطناع السعادة والوئام والانسجام أمام المجتمع، لا لشيء سوى الخوف من الألسن أو حرصاً على مكانة ما وخشية اهتزازها.قد يعيّب على المسرحية أنها ربما تفتقد إلى حبكة أو إلى قصة مثلاً أو غير ذلك، لكن إيجابياتها كثيرة لأنها تعكس ما في عقل الزوج والزوجة ويخشيان البوح به، إذا هي مرآة داخلية للعلاقات الزوجية، تسبر أغوار العواطف والأحاسيس المختلفة وتقدمها، وسط ديكور بسيط وإضاءة تؤدي دوراً مساعداً في إبراز ردات الفعل بين الزوجين التي نجح كل من فادي وريما في التعبير عنها.