الرواية بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي (3-3)
الزمان والمكان اللحظي وزمن الحكاية ومكانها:إن منطق الحياة البشرية يشير بوضوح إلى أن أي حدثٍ، سواء كان واقعياً أو خيالياً، يتطلب بالضرورة وجود زمان ومكان لكي "يتشيّأ" وينعقد خلالهما، وهذان هما الزمان والمكان اللحظيان، مع الإشارة إلى أن لحظة انقضاء الحدث تعني تحول هذا الزمان وذاك المكان ليصبحا زماناً ومكاناً لحكاية قد انقضت وصارت من الماضي. يستحيل بأي حالٍ من الأحوال إعادتها، ولكن يمكن استرجاعها عبر "التذكر- Flash Back"، وهذا يشير بوضوح إلى ضرورة التفريق بين الزمان والمكان اللحظيين وبين زمان ومكان الحكاية.
أفهم الرواية بوصفها حدثاً فنياً إبداعياً متخيلاً يستند بنسبة أو بأخرى إلى شيء من الواقع، ويحاول جاهداً أن يوهم القارئ بواقعيته وإمكانية حدوثه، مع ضرورة الانتباه إلى أن الرواية، منذ تأكد حضورها وانتشارها الواسع في القرن التاسع عشر، نهضت على وجود الراوي، سواء كان راوياً كلياً عليماً أو كان بأي صيغة أخرى.والمنطق العقلي السليم يثير تساؤلاً مشروعاً مفاده: كيف تسنى لهذا الراوي العليم معرفة كل شيء عن عوالم الرواية؟ مما يشير إلى علاقته الحميمة بالرواية، وبالتالي ضرورة تواجد مكان وزمان يخصّانه، كي يتمكن من سرد حوادث الحكاية، وأنه إذا تعذر على المؤلف خلق الراوي وإظهار مكانه وزمانه نسبة إلى مكان وزمان الحكاية، فهذا يعني أن المؤلف يقفز على إحدى أكثر صعوبات بناء الرواية، مختبئاً خلف صيغة الراوي العليم، فالمكان اللحظي هو الحاضن الأهم لوجود الراوي.إن الرواية بقدر ما تتخذ من سيرة مؤلفها وأبطالها موضوعاً رئيسياً لها، فإنها تسلط الضوء على الوضع الاجتماعي في أي مجتمع من المجتمعات وفق ما يلي:- معاناة الكاتب، وإشكالية قدرته على الموافقة بين آرائه بقناعاته وحياته وبين عمله في أي مؤسسة حكومية أو أهلية. - حرج الكاتب في تصديه للكتابة عن شخصيات حقيقية، سواء على مستوى علاقته بهم أو علاقته بالنص، مع ضرورة بقائه فنياً محايداً يحرك الشخوص وفق قناعاتها هي لا وفق ما يريده هو لها.- اشتباك الكاتب برصد خبايا الحالة الاجتماعية وما قد يعرّضه للمساءلة القانونية.- مواجهة الكاتب لرفض المجتمع المنغلق كشْفَ الغطاء عن المشاكل الاجتماعية الشائكة وإدانتها عبر العمل الفني.- إشكالية الكاتب في الحصول على رخصة من الجهات المسؤولة تسمح له بنشر وتسويق عمله في مكتبات بلده ومحيطه بعد صدورها.المرأة ضد المرأةمن خلال النظر إلى واقع الحال في المجتمعات الخليجية والعربية، فإن عيش المرأة في مجتمعات رجالية أصولية متشددة، يجعل من بعض النساء متزمتات حتى أكثر من الرجال، وبالتالي يأتي موقفهن ضد بنات جنسهن، حتى لو كانت تلك هي الابنة أو الأخت أو القريبة، وذلك لا لشيء سوى أن المرأة الأخرى جريئة في التصريح عن أفكارها، وجريئة في طريقة عيشها، وهذا يؤكد سطوة المجتمع الرجالي في تدجين المرأة، وقدرته على تشكيل وعيها وطريقة عيشها، حتى يصل الأمر بها إلى إدانة بنات جنسها المختلفات عنها في القناعة، دون وضع تلك القناعة على ميزان الإدراك المنطقي والعدالة.أُومِن بأن الكتابة عن معاناة المرأة ومأزق عيشها في المجتمعات العربية هي في صلب مهمة الأدب والفن، وذلك عبر تقديم نماذج لنساء واثقات من أنفسهن وجريئات ومغايرات في سلوكهن، مما قد يحرك بعض الفتيات والنساء لإعادة النظر في قناعاتهن وتقاليدهن وطريقة عيشهن، وذلك أقصى ما يطمح إليه الأدب في المساهمة في تشكيل وعي إنساني متقدم وعصري، حتى لو جاء ذلك على حساب تعرض الكاتب للكثير من النقد والتجريح.